جاء الإسلامُ بجملةٍ من الأحكام المتعلّقة بالجوانب الإنسانيَّة والحياتيَّة المختلفة، من عبادةٍ ومُعاملاتٍ، وسلوكيَّاتٍ وأخلاقيَّاتٍ، وشرع الله تعالى من الأمور ما يَضبط حياة النَّاس، وينظِّم شؤونهم المتعدِّدة، واهتمّت الشريعةُ الإسلاميَّة بالإنسانٍ شكلاً وجوهرًا، وحرصت على سلامته باطناً وظاهراً، فشرعت من الأحكام ما يُغذّي روحه ونفسه وفكره، ويثريهم، ويحفظهم من الشُّبهات والانحرافات، كما شرعت من الأحكام ما يَحفظ جَسده سليماً قويماً مُعافىً من كلِّ سوء وأذى.
من الأحكام التي شُرعت لحفظ الجسد وسلامته جملةُ الأحكام المُتعلّقة بالطَّهارة، فقد امتَدَح الله تعالى في كتابه الكريم الطَّهارة والمتطهرين، ومنه قوله تعالى: (فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا ۚ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ)،[1] وروي عن النَّبيّ -عليه الصَّلاة والسَّلام- قوله: (الطَّهورُ شطرُ الإيمانِ، والحمدُ للهِ تملأُ الميزانَ، وسبحان اللهِ والحمدُ للهِ تملآنِ أو تملأُ ما بين السماواتِ والأرضِ)،[2] والطهور هنا المقصود به الوضوء، وهو شكلٌ من أشكال الطَّهارة.
المراد من حديث النَّبيّ -عليه الصَّلاة والسَّلام- أنَّ الطهور نصف الإيمان، والمراد منها أنَّ الإيمان يجبُّ ويمحو ما قبله من الخطايا والأوزار، فكأجر ذلك الطهور أي الوضوء، وقيل المراد أنَّ الوُضوء في ثوابه وأجره ويبلغ نصف أجر الإيمان،[3] وهذا إن دلَّ على شيءٍ، فإنَّما يدلُّ على اهتمام الشريعة بالطَّهارة وأشكالها من وضوءٍ وغُسْلٍ، وتالياً حديثٌ عن الغُسْل وأحد موجباته، وهي الجنابةٌ، وبيان المَقصود بها، وكيفيَّة الاغتسال منها.
الجنابة في اللغة مشتقَّةٌ من الجذر اللغوي جنب، والجيم والنون والباء أصلان صحيحان قريبان، أحدهما دالٌّ على النَّاحية، والآخر دالٌّ على البُعد، وهو المُراد هنا، وسُمِّيت الجنابة بذلك؛ لأنَّ الرجل الجُنب يجتنب -أي يبتعد- عمَّا يقرب منه غيره من الصَّلاة ودخول المسجد ومسِّ القرآن الكريم.[4]
الجنابة في الشَّرع أمرٌ مَعنويٌّ يحصل في البدن، يمنع عن صاحبه صحّة بعض الأفعال؛ كالصلاة، وقراءة القرآن الكريم، ودخول المسجد، وسببها نزول المني أو الجَماع بين الزوجين.[5]
الغسل من الجنابة واجبٌ شرعاً كما أوردت النُّصوص الشَّرعيَّة، ومنها قول الله تعالى: (وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا ۚ)،[6] وللغسل من الجنابة فرائض لا يتحقَّق الغسل ولا يصحُّ إلا بها، وسُننٌ يُستحبُّ فعلها أثناء الغسل، وعَدم القيام بها لا يَعني عدم صحّته، إنَّما هي تُضفي على الغسل صفة الكمال، فأمَّا عن فرائض الاغتسال من الجنابة، فهي:[7]
من سُنن الاغتسال من الجنابة يُمكن أن نذكر:[7]
من أراد الاغتسال من الجنابة فإنَّه يكفيه ويجزؤه النِّيَّة -عند من يشترطها من الفقهاء- وتعميم الماء على جميع الجسد بما فيه الشعر والرأس، وأمَّا من أراد أن يأتي بالأكمل الذي فعله النَّبيّ -عليه الصَّلاة والسَّلام- فعليه أن يأتي بسنن الغسل،[7] كما روت عائشة -رضي الله عنها- عن رسول الله -عليه الصَّلاة والسَّلام- : (أنَّ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إذا اغتَسَل منَ الجَنابةِ، غسَل يدَيه، وتوضَّأ وُضوءَه للصلاةِ ، ثم اغتَسَل، ثم يُخَلِّلُ بيدِه شعرَه، حتى إذا ظنَّ أنه قد أَروى بَشَرَتَه، أفاض عليه الماءَ ثلاثَ مراتٍ، ثم غسَل سائرَ جسدِه).[8]
ثمَّة جملةٌ من العبادات التي يحرم على الجُنب فعلها قبل أن يغتسل من جنابته، وهي:[5]