الصور الفنية في معلقة امرئ القيس (قفا نبكي)
احتوت معلقةُ امرئ القيس على الكثير من الصور الفنية والأساليب البلاغية التي أضفت عليها قيمةً جوهرية جعلتها أبرز المعلقات وأجودها، وفيما يلي أمثلة على تلك الصور الفنية في القصيدة:
يقول الشاعر في البيت الثالث:
تَرَى بَعَرَ الأَرآم فِي عَرَصَاتِها
::: وَقِيعَانِها كَأَنَّهُ حَبُّ فُلفُلِ.
هنا صورة فنيّة بليغة، حيث يصف الشاعر في مطلع قصيدته ديار محبوبته واشتياقه لها والوقوف على أطلالها، وقد شبّه روث الظّباء المنتشر في ساحات ديار حبيبته بحبّات الفلفل الأسود المتناثرة على الأرض، في دلالةٍ منه على خلوّ المكان من الناس وأنّهم رحلوا عنه منذ زمن.
في البيت التالي يقول:
كأنّي غداة البين يوم تحمّلوا
لدى سمرات الحيّ ناقف حنظلِ.
هنا يعبّر الشاعر متذكّراً فراق محبوبته وهو يراقبها متخفيّاً بين سمرات الحي، ويشبّه دموعه المنهمرة حينها بالجاني وقاطف الحنظل؛ أي من يفصل اللّب عن الثمرة ويستخرجها، وهذا يسبّب الدموع كما يسببه تقطيع البصل.
ثمّ يصوّر في الأبيات التالية كيف كان شكل ناقته التي عقرها كأنّها تُشبه طرف الثوب الحريريّ المفتّل من جمال ناقته.
فظَلّ العَذارى يَرتَمِينَ بِلَحمِها
::: وَشَحمٍ كَهُدَّابِ الدِّمَقسِ المُفَتَّلِ.
وكذلك الصور البيانية في البيتين التاليين حينما قال:
فمِثلُكِ حُبْلَى قَد طَرَقتُ وَمُرضِعٍ
::: فَأَلهَيْتُها عَن ذِي تَمَائِمَ مُحوِلِ
إذا ما بَكى مِن خَلفِها اِنصَرَفَتْ لَهُ
::: بِشِقٍّ وَتَحتي شِقُّها لَم يُحَوَّلِ.
هنا أتى امرؤ القيس بصورة جميلةٍ، عندما صوّر لمحبوبته حال المرأة الحبلى والمرضعة إذا رأته انشغلت عن طفلها وعن مراعاته مع أن طفلها جميلٌ تخاف عليه من الحسد، ولكن من شدة حبّها له فلا بدّ أن تترك كل شيء من أجله مهما كان انشغالها، فهذه المرضعة لا تقاومه فكيف بمحبوبته.
ثم يقول في البيتين التاليين:
أغَرَّكِ مِنِّي أَنَّ حُبَّكِ قَاتِلِي
::: وَأَنَّكِ مَهْمَا تَأمُرِي القَلْبَ يَفعَلِ
وَمَا ذَرَفَتْ عَيْنَاكِ إِلَّا لِتَضربي
::: بِسَهْمَيْكِ فِي أَعشَارِ قَلْبٍ مُقَتَّلِ.
هنا شبّه حبّ فاطمة (محبوبته) وكأنه سيفٌ يقتله ولا يستطيع إبعاده، ثمّ يأتي بصورةٍ بليغة حينما يصف جمال عينيها ودموعها التي تسيل ويشبّهها بالسهم الذي يخترق صدره وقلبه، فهو لا يحتمل رؤيتها وهي تبكي.
ثمّ يكمل تشبيهه له:
إذَا مَا الثُّرَيَّا فِي السَّماءِ تَعَرَّضَتْ
::: تَعَرُّضَ أَثْنَاءِ الوِشَاحِ المُفَصَّل
فَجِئْتُ وَقَد نَضَّتْ لِنَومٍ ثِيابَهَا
::: لَدَى السِّترِ إِلَّا لِبسَة المُتَفَضِّلِ.
فيصوّر مجيئها وطلّتها عليه كالثرّيا والنجوم اللامعة في وسط السماء، والصور الفنية في هذه المعلقة لا تنتهي ولا ينتهي جمالها.
هو جندح بن حُجر الأكبر بن عمرو بن الحارث الكندي، ولد سنة ٤٩٦م في مدينة نجد في اليمن، ولقّب بامرئ القيس أيّ رجل الشِّدّة كما يُشاع،، وقد اشتهر بعدة ألقاب منها: الملك الضليل وذو القروح وأبي الحارث، كانت حياته مليئةً بالتناقضات والمؤثرات النفسية والحالات العاطفية، وانعكس ذلك على شعره، فتعدّدت كتاباته بين فخر وغزل ووصف وغيرها من الأغراض الشعرية التي تناولتها قصائده.
توفي امرؤ القيس سنة 544م بمرض الجدري ودُفِن في أنقرة، ويعدّ أحد أهم شعراء الجاهلية وأبرزهم مكانةً إلى يومنا الحالي، وله الكثير من القصائد المعروفة، وأشهرها معلقته (قفا نبك).
معلقة امرئ القيس هي إحدى المعلقات العشرة المشهورة، وأجود ما قيل واشتهر من تراث الأدب العربي، قيلت في القرن السادس الميلادي، ونُظمت القصيدة على البحر الطويل، ويقال إنها تتكون من 77 بيتاً أو أكثر ومطلعها:
قفا نبكِ من ذكرى حبيبٍ ومنزلِ
بسقط اللّوى بين الدّخول فحوملِ.
المعلقات هي أشهر وأبلغُ ما وصلنا من الشعر الجاهليّ، ويُقالُ إن العِلق يعني الشيء الغالي والنّفيس، فلذلك سُمّيت معلقات، لأنها أفضل ما كُتِب في الشعر، والسبب الآخر أنّها كُتبت بماء الذهب وعُلِّقت على أستار الكعبة قبل مجيء الإسلام.
وعدد هذه المعلقات سبعة وزادوا عليهم ثلاثة، جمعها حمّاد الراوية في كتاب واحد، وهي: معلقة امرئ القيس، طرفة بن العبد، الحارث بن حلزة، زهير بن أبي سلمى، عمرو بن كلثوم، عنترة بن شداد، لبيد بن ربيعة، الأعشى، عبيد بن الأبرص، النابغة الذبياني.