تطور الفكر الجغرافي
الأرض هي المجال الذي تجري فوقه فعالية الناس، وما مشهدها الحالي سوى صورة فورية بالنسبة للتغيرات المستمرة التي تتم عليها، أمّا فعالية بني الإنسان فهي أكثر تبديلًا وحركية.
وتبدو الجماعات البشرية بالواقع وكأنّها تلك الفئات التي تستخدم الكرة الأرضية بلا كلل ولا ملل، فتكرر عدواتها وروحاتها لأغراض متباينة. وهكذا كانت تتردد على دروب آسيا الترابية، وذلك على فترات تتباعد عن بعضها بالقرون، جنود الاسكندر المقدوني، والتي أعقبتها قوافل التجار، كما طرقتها حوافر خيول جحافل المغول مثلما تجوس خلالها اليوم عجلات السيارات الشاحنة، وهكذا ظل الناس يستخدمون هذه الطرق بالتعاقب إشباعًا لنزواتهم في المغامرة وفي حب المخاطرة.
والواقع لقد كانت المغامرة مهما كان الدافع إليها، كحب الكسب، والفضول العلمي، والضرورة، أقول كانت عمليًا الطليعة، أو المرحلة الأولى في الجغرافيا.
وبالفعل سنجد خلف الأفق المألوف جمال البحر المتحرك، وذلك السكوت الأزلي في السهوب التي تشويها الشمس، وروعة الجبال الشامخات في هيكلها الذي يصعد في عنان السماء، نعم سنجد ذلك عبر إرادة الرائد الحادة التي لا تعرف التردد، ومن خلال مسيرة المكتشف المصمم، ومن وراء الثقة التي لا تنثني والتي تدفع الملاح نحو عرض البحار والمحيطات.
وهذه الرغبة في التعرف على "البلاد الغريبة" والتي نحس بها ما هي إلّا رواسب غامضة في أعماقنا، موروثة من عصور الإنسانية الأولى التي لم تعرف الاستقرار، ذلك أنّ أوائل الناس قاموا بكشف سطح الأرض قبل الرحلات اليونانية الطويلة بكثير، وقبل الاكتشافات الكبرى في القرن الخامس عشر.
وتبدو أكثر الظواهر المميزة لعصور ما قبل التاريخ، على وجه التحديد، هي تلك التنقلات وتلك الهجرات التي لا تتوقف والتي تنتاب الجماعات البشرية. وهكذا انتشر الإنسان منذ وقت مبكر جدًا فوق كل الأمكنة القابلة للسكن، وهذا الانتشار الواسع للجنس البشري يعود لعصور سحيقة، وهو ما أشار إليه كل علماء الطبيعة، والذي أيدته الاكتشافات التي تعود لعصور ما قبل التاريخ: كالهياكل العظمية، والمصنوعات والأدوات الصوانية، والرسوم على الصخور، والتي تنم على وجود الإنسان في كل بقاع الأرض، حتى في أكثرها فقرًا كالصحاري الكبرى. ولكن لا يجوز لنا أن نتصور هذه الجماعات البشرية وكأنّها محصورة ضمن حدود ثابتة، أو على أنّها مجزأة ضمن وحدات منعزلة تمامًا عن بعضها البعض، ذلك أنّ ما نعرفه عن الهجرات الكبرى خلال هذه العصور التاريخية كهجرة بني هلال وسليم، أو ما يذكره لنا المؤرخون الرومان عن الغزوات الجرمانية، أو ما نستشفه عن حركات الشعوب الواسعة في أفريقيا السوداء، التي كانت ولا تزال قريبة من الجماعات البشرية البدائية، هي التي تسمح لنا بإدراك التموجات التي انتابت الجماعات الإنسانية البدائية.
وهكذا حدثت هجرات جماعية بعد قرار اتخذته هذه الجماعات في إثر مناقشات عديدة، وتحت تأثير هلوسات حماسية، أو رغبة في بلوغ مناطق أكثر خصبًا، أو المراعي الغنية بالأعشاب، أو على شكل هجرة عشائر صغيرة، بقصد الابتعاد عن جيران ذوي نفوذ شديد، أو على شكل جحافل المحاربين المثقلين بأمتعتهم، أو بغنائمهم، أو ربما على صورة رحلات تدفعها الغريزة والأقدار، وهكذا حدثت كل هذه الهجرات القليلة الكثافة، والكثيرة الحركة على شكل موجات، وعلى فترات متباينة في مداها، انتشرت على كل الرقعة التي يسكنها بنو الإنسان الحاليين.
وقد مر الفكر الجغرافي في مراحل عدة في التطور، هي:
- الأسس الجغرافية والاكتشافات والمعلومات في العصور القديمة.
- ثم المسالك الكبرى في العصر الوسيط، واكتشافات ماركو بولو وغيرهم.
- والاكتشافات البحرية الكبرى في القرنين الخامس عشر والسادس عشر التي تمت على أيدي كبار المكتشفين، مثل: غاما وماجلان وغيرهم.
- والرحلات البحرية الكبرى، وقياس الأرض في القرن الثامن عشر، ووضع الأسس الجديدة لمعرفة الكرة الأرضية، وارتياد المحيطات ورحلات كوك.
- ومن ثم اكتشافات الحقبة المعاصرة، والكشوف القارية، ومعرفة العالم، واستكشاف المناطق القارية الكبرى.
- ثم الحقبة المعاصرة والاكتشافات القطبية، واكتشاف المناطق القطبية الشمالية، والمناطق القطبية الجنوبية.
- ثم الجغرافيا الحديثة، ووضع علم المصورات والجغرافيا الرياضية، وتأسيس الجغرافيا الحديثة على يد همبولت وريتر، وكذلك تأسيس المدارس الجغرافية: الجغرافيا العامة، والجغرافيا الإقليمية.
- ثم المرور بمرحلة العلم الجغرافي، واكتشاف طرائق العمل ومشكلات الأسلوب، والاستقلال الجغرافي الذاتي.
كانت هذه مراحل التطور الجغرافي عند الإنسان على مختلف العصور والأزمنة والقرون.