ما هي مظاهر ليلة القدر
مقدمة
هي ليلة ليست كغيرها من سائر الأيام، تهل بها البركة، تزدان بها السماء بأنوار الإيمان، قد خصها الله عز وجل وكرمها بأن أنزل فيها القرآن على النبي الأمي الكريم "صلى الله عليه وسلم" رحمة للناس أجمعين، فيها يشعر المسلم بحلاوة في روحه وشعور لا يستطيع أن يصفه أعظم الشعراء مهما تعالت مفرداته، فلغة الروح لا يفهمها سوى العابدين المتقين، ويشاء قدر الخالق أن تكون هذه الليلة في الشهر الكريم، الشهر الذي يتوق المسلمون لرؤية في كل عام من الدهر، فتتفتح فيه سبل الخيرات، ويرحب به المسلمون وبما جاء به من بركة على الناس، فما هي ليلة القدر؟ وما هي المظاهر التي تكون فيها؟ وكيف كان يقضيها الصحابة "رضوان الله عليهم" في عصرهم الجميل؟
ليلة القدر: ليلة ذكرها الله عز وجل في سورة القدر بكتابه الكريم، وتأتي هذه الليلة في السابع والعشرين من شهر رمضان المبارك، ويجمع البعض على أنها تأتي ليلة فردية فقد تكون في الحادية، أو الثالثة، أو الخامسة، أو السابعة، أو حتى التاسعة بعد العشرين، ويستقبلها المسلمون بالصلاة والطاعة المستمرة من بعد صلاة العشاء حتى طلوع فجر اليوم الجديد؛ آملين من الخالق الكريم أن يغفر لهم ما تقدم لهم من ذنوبهم وخطاياهم، فبها يعتق الكثير من النار وتُكتب له الجنة إثر ما قدمه من ندم وطاعة في هذه الليلة العظيمة.
إحياء النبي "عليه أفضل الصلاة والسلام" هذه الليلة
قد كان الرسول عليه السلام قاضياٌ عمره في الطاعة، والعبادة، وداعياٌ في سبيل الدعوة الإسلامية التي بُعث فيها للناس كافة، وإن من أكثر ما يتحبب به الرسول عند فعله هو العبادة، فقد كان يتلذذ بها عليه السلام، ومن أكثر الأيام التي كان يحب أن يتقرب إلى الخالق -عز وجل- العشر الأواخر من شهر رمضان الفضيل، فقد كان عليه السلام يعتكف فيهم جميعاٌ، وأخص ما قد كان يهتم به هي ليلة القدر، لما لهذه الليلة من فضل عظيم وبركات تنزل عن المؤمنين، ومن المظاهر التي كان الرسول يفعلها في هذه الليلة، الإكثار من تلاوة القرآن والتهجد لله في قراءته، والاستغفار والتسبيح، فقد كان الحبيب يكثر منها الأذكار والأدعية التي يتقرب بها ويتوب به إلى الله، وكان عليه أفضل السلام والصلاة، يصلي بالناس ليلاٌ حتى طلوع الفجر، فمثل هذا يوم لا يفوت أجره من بين أيدينا، وحري بنا أن نسير على النهج الذي خطه الرسول الكريم وأن لا نحيد حتى وإن ابتعدنا قليا فلنسارع بالعودة.
من المظاهر التي تتخللها هذه الليلة
اعتاد المسلمون أن يقوموا ليلة كهذه الليلة بكل جوارحهم، وعلى مر العصور فلم تذكر أمة وقد أضاعت هذه الليلة، بل قد حافظو على شعائرها ولم يخلوها هباءٌ، وهناك العديد من العبارات التي يفعلها المؤمنون بهذه الليلة منها:
- الاعتكاف والصلاة: فيصلي المسلمون في هذه الليلة صلاة جماعة، طوال الليل حتى يطلع الفجر، فهي سلام وتعني هنا كلمة سلام بأن الشيطان لا يستطيع أن يوسوس لأصحاب الإيمان بالتخاذل، وتكون الصلاة عبارة عن ثمان ركعات يقسمها البعض إلى نصفين ومنهم لأربعة، ويتخلل هذه الركعات دروس وخطب تنفع المؤمنين وتحذهم على الطاعة، فلذة الطاعة في هذا اليوم ليس لها مثيل.
- قراءة القرآن: يكثر المصلون في هذه الليلة من تلاوة كتاب الله العزيز، ومنهم من يتسابقون فيه، لما لهذا من الأجر العظيم، فقد يسعى الكثير لأن يختم الكتاب في هذه الليلة خاصة وبالشهر الفضيل بشكل عام، كما وقد روي عن الإمام أبي حنيفة والشافعي، أن كل منهما كان يختم القرآن 60 ختمة خلال الشهر الفضيل، وتكون القراءة بسكينة وطمأنينة كي تريح نفس القارئ.
- الدعاء: من أجمل ما قد اعتاد عليه المؤمنون في ليلة مثل هذه الليلة هو التذلل لله عز وجل والتقرب إليه بالدعاء بمختلف الأدعية التي يتقربون بها إلى الله، ولعل من أشهر هذه الأدعية هو دعاء ختم القرآن، وأدعية الأنبياء الواردة في القرآن الكريم، وما تيسر لدى الأئمة من أدعية وافية شروط الدعاء.
- الدروس والخطب: فيكثر الواعظون بين أداء ركعات الصلاة في هذه الليلة من الخطب والدروس والعبر التي تنفع المسلمون وتجعلهم أٌقرب إلى الله عز وجل، وأكثر حرصاٌ على الطاعة، فيذكرون نعم الله علينا، ويذكرون دروس وعبر وقصصاٌ من قصص النبي وأصحابه كي نغرف من العبر الكبيرة التي بين أيدينا ولكي نشعر بها كثيراٌ.
- التسبيح والاستغفار: على الرغم من أن الاستغفار والاستذكار هي عادة على لسان كل مسلم ذاكر، إلا وأنهم يكثرون بذكر الخالق في هذه الليلة ويسبحونه بحمده ويستغفرون، ومن أشهر هذه الأدعية هو سيد الاستغفار ونصه "اللهم انت ربي خلقتني وأنا عبدك، وأنا على وعدك وعهدك ما استطعت، أبوء لك بنعمتك علي وأبوء بذنبي، فاغفر لي فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت" وهناك دعاء النبي يونس عليه السلام فقد استغفر الله به، وهناك العديد من الأدعية التي تتيسر للمسلمين على ألسنتهم الذاكرة.
- ولعل من أجمل المظاهر التي قد يعيشها المسلمون المصلون هذه الليلة، هو أنهم بعدما يفرغون من صلاتهم وعبادتهم، يتناولون سحورهم مع بعضهم البعض، فهذا يقوي روابط الإسلام بينهم ويعزز لديهم الإيمان والتقوى وحب دين الله، ثم ما يلبثوا قليلاُ وسرعان ما يتحولون إلى أن يقوموا فيتوضؤون سوياٌ، ويتوجهون للصلاة وهم يشرعون في صيام يومهم الجديد.
فضل ليلة القدر
ليلةٌ كالقدر، جاهل من يغفل عن أنها ذات فضل عظيم عند الله عز وجل، فمن يعلمها عليه أن يستغل هذا جيداٌ، فلها الكثير من الفضل والأدلة في هذا كثيرة، فقد بينها الرسول -عليه السلام- بعد أن كرمها الله في كتابه، ومن هذه الدلائل:
- أن الله قد عظم لها الشأن: فقد ذكرها الله في كتابه فقال" وما أدراك ما ليلة القدر" وهذا إشعار بمدى أهمية وعظم هذه الليلة الكريمة.
- قد فضلها الله -عز وجل- على غيرها وسواها من الأيام، وقد ذكرها في نفس السورة بأنها أفضل من ألف شهر، وقد ذكرها المفسرون بأن عملاٌ في هذه الليلة قد يعادل جموع الأعمال في تلك الأيام الكثيرة.
- السلام والسكينة، فيتنزل على القائمين القانتين في هذه الليلة، كمية من السكينة والطمأنينة تملأ النفوس، وقد اجمع المفسرون أن السلام يعني عدم قدرة الشيطان بالقيام بعمله هذه الليلة، فلا يستطيع أن يوقف هذه الكمية المهولة من العبادة والتقرب لله.
- عدم طلوع الشيطان صبيحة هذه الليلة، فمن المعلوم أن الشيطان يطلع مع طلوع كل صباح على الناس، ولكن في صبيحة هذه الليلة لا يطلع على من أقامها أبداً.
- نزول الملائكة وعلى رأسهم جبريل "عليهم السلام": فقد ذكر الله هذا في سورة القدر في كتابه، وهذا لفضل من الله يمن به على الناس والمسلمين.
- غفران الذنب: فمن أقام هذه الليلة إيماناٌ بالله واحتساباٌ عبادته عند الخالق، فقد بشره الله ورسوله بأن يغفر الله له ذنبه ما تقدم منه وما تأخر.
ولو لم تكن هذه الليلة ذات فضل وأمر عظيم، لما ذكرها في كتابه الكريم، بأنها ليلة مباركة، فكثير من المسلمين ينتظرون هذه الليلة من الدهر كله، والكثير منا قد يعلق أمله وثقته بالله على هذه الليلة، ولو نظرت قليلاٌ ونفسك، تجد أي فرد قد ملأ الإسلام قلبه، مهما كانت مشاغله وأعماله والأمور التي تشغلنا بها هذا الدنيا وقد ذكر له أحدهم وقد قال: الليلة "ليلة القدر" تجده قد أعد وهيأ نفسه لقيام هذه الليلة بقلبه وجوارحه، ومن منا يجهل فضل ليلة كهذه، فلا تضيعوا فرصة كهذه، فهذا إعلان من الله لكل من يريد أن يقبله الله ويغفر له، فليس العيب أنك تبدأ تقربك إلى الله من ليلة القدر وشهر كرمضان، فالله يقبل كل من يأتيه عاصياٌ وتائباٌ، فكلنا بشر يخطئون، وخيرنا من يسارع بالتوبة.