يشهد الناس اليوم الكثير من الفتن والمحن، ولعل هذا يعود إلى بعد الناس عن الله -تعالى- وعدم الاهتداء بهدي النبي -صلى الله عليه وسلم- في الحياة؛ من التسلح بالإيمان والعمل الصالح، وإهمال العدة المادية والمعنوية، وقد وعد الله -تعالى- عباده المؤمنين بالتمكين لهم في الأرض على صورٍ متنوعة؛ منها تمكين الدعاة والعلماء من تبليغ رسالة الإسلام، كما تمكَّن النبي -صلى الله عليه وسلم- من تبليغ الرسالة لأهل مكة، ومنه كذلك هزيمة الكفار ونجاة المؤمنين، كما مكَّن الله -تعالى- لموسى -عليه السلام- النصر على فرعون وجنوده.[1]
حذَّر الله -تعالى- عبادة من التكاسل والتواكل، وأمرهم بالإخلاص في العمل والمثابرة مع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فقد سادت الأُمة الإسلامية العالم حين تمَسَّكت بمبادئها ونفَّذت تعاليم الإسلام كما أراد الله -تعالى- لها أن تكون، فقد كانت جيوش المسلمين في ذلك الزمان متسلِّحةً بإيمانها الراسخ وعزمها الصادق على رفع راية الحق، فأثابهم الله -تعالى- على ذلك بالفتح المبين ودخول الناس في دين الإسلام أفواجاً، فمن سلك طريق الحق وطلب الهداية بقلبٍ صادق كان الله معه مؤيّداً ونصيراً.[2]
وما وصل المسلمون إلى ما وصلوا إليه من الضعف والهوان إلا بالتواكل وترك السعي حتى ظهر فيهم وصف النبي -صلى الله عليه وسلم- لهم بغثاء السيل، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (يوشك الأممُ أن تتداعى عليكم، كما تتداعى الآكلةُ إلى قصعتِها)،[3] فسأله سائل: ومن قلة نحن يومئذ؟ فأجابه قائلاً: بل أنتم كثير ولكنكم كغثاء السيل، حيث لا يكون في قلوب الأعداء مهابة للمسلمين، وليس هذا إلا لترك دين الله الذي لا يأتيه الباطل، ولا يتطرّق إليه الشك، ومن الجدير بالذكر أنَّه لا سبيل لعودة القوة والغلَبة لأُمة الإسلام إلا بالسعي الجاد، وتطهير النفس بالتوجه الصادق لله عز وجل، فإذا صحَّت العزائم واستقامت الجهود؛ كان حقاً على الله أن ينصر المسلمين ويُمكِّن لهم في الأرض،[2] فقد جعل الله -تعالى- للنصر أسباباً لا بُدَّ من الاعتناء بها والحرص على تحصيلها، منها:[4]
قضت سنة الله -تعالى- بتدافع الحق وأهله مع الباطل وأهله، كما إنَّ الانتصار يكون وفق سنن الله -تعالى- كذلك، فإذا تمَّسك أهل الحق بأمر الله -تعالى- كان لهم عونه وتأييده مع بقاء المدافعة، وقد جاءت غزوة بدر بجميع أحداثها وتفاصيلها في سورة الأنفال، وكانت الدعوة في السورة إلى تقوى الله عز وجل، وإصلاح ذات البين، والتزام طاعة الله وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم، وفي هذه الأوامر إرساء لقواعد هامة في بناء الدولة المسلمة، وقد شهد المسلمين بعد انتصارهم في غزوة بدر رهبةً بين قبائل شبه الجزيرة العربية، فسطع نجم الإسلام عالياً، مما منع المشركين من العداوة الظاهرة للإسلام، وإنَّما ظهر بين المسلمين من أعلن إسلامه وأبطن داخله الكفر والعداء للإسلام والمسلمين.[5]
وكانت غزوة بدر كذلك سبباً في إكساب المسلمين العديد من المهارات العسكرية، وفي ذات الحين لم تقتصر خسارة قريش على الخسارة الحربية المُتمثّلة بفقد سادة الكفر عتبة بن ربيعة، وأبي جهل بن هشام، وغيرهم، وإنَّما كانت خسارة معنوية تهدّدت فيها تجارة مكة وسيادتها في أرض الحجاز، فالنصر من عند الله، يقول الله تعالى: (وَمَا جَعَلَهُ اللَّـهُ إِلَّا بُشْرَىٰ لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُم بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِندِ اللَّـهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ* لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِّنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنقَلِبُوا خَائِبِينَ)،[6] وقد كانت غزوة بدر بمثابة الفرقان بين عهد المصابرة والانتظار وعهد القوة، وقد جسَّدت لأجيال الأُمة كيف تكون عقيدة الولاء والبراء، فقد عاشها الصحابة واقعاً دون تهاون، فهذا أبو بكر الصديق -رضي الله عنه- يُقاتل في صف المسلمين وابنه في صف المشركين، لأنَّ قتاله لم يكن في سبيل الثأر أو العصبية والقبلية، وإنَّما في سبيل الله،[5] ولم يُقتل في غزوة بدر إلا أربعة عشر شهيداً من المسلمين، بينما قُتل سبعون من أشراف قريش وأُسِر سبعون منهم وولّوا أدبارهم خائبين،[7] وقد كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يكثر الدعاء والتضرّع في ليلة بدر إلى الله -تعالى- بالنصر والتمكين على الأعداء الذين اجتمعوا على معاداته ومحاربة أصحابه.[8]
إنَّ إنجاء المصدّقين برسالة الرسل والأنبياء على المكذبين من السنن الرَّبانية الماضية في الكون، والثابتة في كل زمانٍ ومكان دون تخلُّف، فالتمكين من وعود الله -تعالى- المشروطة بتحقيق الإيمان والعمل الصالح، وأداء العبادات كما أرادها الله -تعالى- بصورةٍ بعيدةٍ عن الوهم والخرافة، ومنها كذلك محاربة الشرك بكافّة صوره عن طريق معرفة حقيقته وخطره والأسباب المؤدّية إليه، وإلى جانب هذه الشروط لا بدّ من الأخذ بأسباب التمكين الواردة في القرآن الكريم والسنة النبوية.[1]