شاع بين عامة الناس وبين الدارسين أيضاً أنّ اللغة العربيّة لغة صعبة، وأنّ قواعدها النحويّة ليست سهلة للفهم، إلا أنّ ما شِيعَ عنها دليلٌ على جهل مَن اتّهموها بذلك، وظلمٌ بحقها، فالنَّحو العربيّ في حقيقة الأمر ليس كما شِيعَ عنه، وهو ليس صعباً ولا مُعقَّداً، بل هو كالعلوم واللغات كافّة، يجب أن يُدرَس دراسة جادّة مَبنيّة على أسس وقواعد مُحدَّدة. ويتميَّز النَّحو العربيّ بقواعده الثابتة والراسخة؛ ممّا يجعله سهلاً عند الدراسة، وسهلاً للفهم أيضاً.[1]
وممّا يميِّز النَّحو العربيّ عن سائر القواعد النحويّة للّغات الأخرى، مرونَته في عدم الالتزام بترتيب أركان الجملة في حالات مُعيَّنة، مع مُحافَظته على المعنى، كتقديم المفعول به على الفاعل، والخبر على المُبتدَأ.[2]
وقد سُمِّيَ النَّحو نَحواً؛ لأنّنا نَنحو مَنحى العَرب في كلامهم ونسير على آثارهم، فقَولُنا (نحا نَحْو الشيء) يعني قَصدَه ومشى مَمشاه وقلَّدَه.ويبحث النحو في أصول تكوين الجملة، وقواعد الإعراب،[3] وعلم النَّحو علمٌ يهتمُّ في جوهره بضبط أواخر الكلمات بحسب مَوقِعها في الجملة، وما يصيبها من إعراب أو بناء، بالإضافة إلى اهتمامه بأمور أخرى، كمعاني الحروف، وأسباب تقديم الكلمة أو تأخيرها، وغير ذلك.[4]
وتُعَدُّ الغاية العُظمى من معرفة قواعد النَّحو هي الحفاظ على المعنى،[5] ومثال ذلك قول الله تعالى: ( إِنَّمَا يَخْشَى اللَّـهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ )،[6] فقد تقدَّمَ المفعول به وهو اللهَ على الفاعل وهو العلماءُ؛ ولولا العلامات، أو الحركات الإعرابيّة، لاختلّ المعنى بغير ما أراده الله سبحانه وتعالى؛ فقد يقرأ الآية قارئ مُتسرِّع غير مُتأمِّل، فيرفع لفظ الجلالة (الله)، ممّا يجعل المعنى بأنّ اللهَ يخشى عبادَه، وهو أمر غير مقبول في الشريعة الإسلاميّة.
بعد أن انتشرت الفتوحات الإسلاميّة وكثرت في العصر الأمويّ، وأصبحت اللغة العربيّة هي الأولى بالنسبة إلى الشعوب الإسلاميّة، ظهرَ اللَّحْن والخطأ على ألسنة الشعوب، وضَعُفَت سليقة العَرَب؛ نتيجة اختلاط الشعوب العربيّة والمُسلِمة بغيرها، فكان لا بُدّ من وجود مَن يسعى للحفاظ على لغة القرآن والسنّة الشريفة، ومن هنا ظهرت الحاجة إلى ضَبْط الكلمات، وكان أبو الأسود الدُّؤلي على الأرجح هو أوّل مَن ابتدع طريقة فريدة لضَبْط الكلمات في القرآن الكريم، فكان يضع نقطة بلون مُخالِف للون الكتابة فوق الحَرف؛ ليدلَّ على الفتحة، ونقطة أسفل الحَرف؛ ليدلَّ على الكسرة، ونقطة عن شمال الحَرف؛ ليدلَّ على الضمّة، ونقطتين فوق الحَرف أو أسفله، أو عن شماله؛ ليدلَّ على التنوين؛ وللدلالة على سكون الحرف، تَرَك الحَرف خالياً من النقط، وبهذا كان أبو الأسود الدُّؤلي هو أوّل من نَقَّط المُصحَف بالحركات، أي أوّل من وَضعَ علم النَّحو، وقِيلَ أيضاً بأنّ أوّل من وَضَع علم النَّحو هو الخليل بن أحمد الفراهيديّ، وقيل أيضاً بأنّه علي بن أبي طالب، وقيل بأنّه سيبَوَيْه[7].[8][9]
ويُروَى أنّ أشهر القصص حول سبب وَضْع علم النَّحو أنَّ أبا الأسود الدُّؤلي مرَّ برجل يقرأ القرآن الكريم، فقرأ: "إنّ اللهَ بريءٌ من المشركين ورسولِه"، وكان الرجل يقرأ (رسولِهِ) مجرورة أي أنّها مَعطوفة على (المشركين)، وهذا يُغيِّر المعنى؛ فكلمة (رسولُه) مرفوعة؛ لأنّها مبتدأ لجملة مَحذوفة تقديرها (ورسولُه كذلك بريءٌ)، وعليه فإنّ القراءة الصحيحة للآية هي: ( أَنَّ اللَّـهَ بَريءٌ مِنَ المُشرِكينَ وَرَسولُهُ )[10]؛ ولهذا ذهب أبو الأسود الدُّؤلي إلى علي -رضي الله عنه- وشرح له أنّ القرآن الكريم، والعربيّة في خَطَر، فتناول علي -رضي الله عنه- رقعة ورقيّة وكتب عليها: بسم الله الرحمن الرحيم، الكلام اسم، وفعل، وحرف، الاسم ما أنبأَ عن المُسمَّى، والفعل ما أنبأَ عن حركة المُسمَّى، والحرف ما أنبأَ عمّا هو ليس اسماً ولا فعلاً. ثم قال لأبي الأسود: "انحُ هذا النَّحو"، يريد منه أن يمشيَ على هذا النَّحو؛ بهدف وضع قواعد ثابتة للعربيّة.[11]
وقد توالى العلماء منذ القرن الثاني، واجتهدوا؛ للحفاظ على القواعد النحويّة، ولم يتقاعسوا في ذلك، وكان من أشهر مَن حَرص على ترتيب القواعد النحويّة، وعُرِفَ بإمام النَّحويّين، العالِم النَّحويّ الفارسيّ الأصل سيبَوَيْه؛ فقد وضع قواعد النَّحو، وأَحسنَ ترتيبَها.[12]
إنّ المعرفة بعلم النَّحو العربيّ أمر ضروريّ، ولا بدَّ منه لكلّ عربيٍّ مُسلِم؛ حتى يستقيمَ لسانه، وتتلخَّص أهميّة المعرفة بقواعد النَّحو وضَبْط الكلمة في ما يأتي:
حَرص العلماءُ العَرَب وغيرهم من العَجَم منذ القِدَم على الاهتمام بوَضْع قواعد ثابتة وسهلة للغة العربيّة؛ لكثرة من يشكون صعوبَتها، ولم يُعرَف عن لغة أخرى أنّها لَقِيَت من الاهتمام ما لَقِيَته اللغة العربيّة من اهتمام أصحابها وعلمائها بوضع قواعد ثابتة لها؛ بهدف إتقان اللغة، وتقويم الألسنة، وفَهْم الكلام أكثر، وفي ذلك قال يوحان فك أحد المُستشرِقين: "ولقد تكفَّلت القواعد التي وضعها النحاة العرب في جهد لا يعرف الكلل، وتضحية جديرة بالإعجاب بعرض اللغة الفصحى، وتصويرها في جميع مظاهرها، حتى بلغت كتب القواعد الأساسية عندهم مستوى من الكمال لا يسمح بزيادة".[15]