-

موضوع عن فصل الشتاء

(اخر تعديل 2024-09-09 11:28:33 )

حين تضحي الأرض كقطعة من طين يابس جاف وقد تفطّر قلبها من شدة العطش، يبعث الله بالحياة فيها مرة أخرى فيرسل غيوم الشتاء المثقلة بحملها لتلقي برحالها فوق تلك الأرض وتعود إلى رحلة جديدة من رحلات الحياة الطويلة بعد جدبها وجفافها، فتنتشي الأرض طرباً بهذا الزائر العزيز الذي طال انتظاره، فالشتاء هو الحياة التي يبعثها الله على أرضه فيعيد له روحها من جديد.

الشتاء رابع فصول السنة وهو خاتمة الفصول، ويكأنه يأتي ليتم مشوار هذه السنة الطويلة ويرمم ما أحدثته الفصول الأخرى، يأتي فتكتسي الأرض ثوب الخضرة اليانعة وتلقي عنها ثوب الصفرة والذبول، لهذا هو فصل التجدّد الذي فيه تنمو براعم الأوراق بعد ذبولها وتتفتّح الأزهار، فصل الخير والنبات فيه تأوي الكائنات إلى راحتها التي سيوقظها الربيع إذا جاء، كما في البيات الشتوي لعض الكائنات كالدببة حيث تقضي الشتاء كاملاً في بياتها الشتوي مستهلكةً من الدهون المخزّنة في جسمها حتى تظل على قيد الحياة، وفيه تهاجر الطيور إلى المناطق الدافئة وحين يرحل الشتاء تعود مرة أخرى، وقبل أن تهاجر تودع الغصن الحزين الوحيد وتخبره أنها ستعود مرة أخرى، فيبقى الغصن يحنُّ لها ولشدوها العذب الجميل حتى إذا ما سحب الشتاء بساطه من تحتنا عادت الطير، وعانقت الغصن الذي طال شوقه لها.

في الشتاء الحب يولد من كل قطرة من الغيث تنهمر، تغتسل فيه النفوس من الضغائن، وتتتنفس فيه الصفاء، فغيث السماء يحيي القلوب قبل أن يلامس الأرض، وفي الشتاء تثور حكايا قلوبنا التي في ثناياها بقايا الشتاءات القديمة، ولعله تساءل عنّا وكنّا قد كبرنا عن شتاء مضى ومع هذا مازال يحتفظ بذكرياتنا فيه الصغيرة كبرواز صغير يعلقها فوق حائطه، ونحن قد تركنا فيه بصماتنا فوق مروجه ونحن نركض ونلعب تحت المطر حتى إذا بردنا تدافعنا مسرعين إلى أمنا لتذهب عنا سطوة البرد ثم نجلس حول المدفأة، وبينما نحتسي بجانبها كأساً من الشاي الساخن تحدثنا الجدة حكاياها التي لا تمل، حينها كنّا نغيب في أحلامنا بين تلك الحكايا ونتخيل أننا الأبطال التي تنصع لأجلهم، بعد ذلك ننام بين خيالاتنا دون أن نشعر، وفي كل عام يمرّ علينا الشتاء باعثاً تلك الرواية الصغيرة في آفاقنا فينطلق الحنين الموجع المؤلم نتمنّى أن نعود إليها صغاراً يتدافع في عيوننا صخب الحياة، لكنه سيظل يرجع ونظل نكبر ونكبر.

به للوجود رونق آخر تنخفض الحرارة ويقصر النهار ويركن البعض للراحة بعد فصل طويل من الكد والتعب، وفيه سلوة للعابد الزاهد كي يستزيد ويستزيد فيصوم النهار ويطيل القيام، وفيه تطيب الأشربة الساخنة اللذيذة، كما أنّه فصل ينطلق فيه عنان الكتّاب فيبدعون وكأنه وحي يلهمهم ما يكتبون، هذه العلاقة الحميمة القديمة ما بين شاعر وقصيدته أو كاتب وروايته نسجها الشتاء بإطلالته وظلاله على ذاك الشعور، وكيف لا؟ وحوله الكون في ألوانه كرسمة ملوّنة مزخرفه كل قطعة فيها تشد نظره إليها حتى تتزاحم في صنوفها الأفكار.

سينقضي الشتاء وينتهي، لكنّنا لن ننسى ما أينعه بين ضلوعنا من حياة، سيظل الشتاء أروع الفصول وتاج على عرش الأرض العظيمة، كل ما في الوجود إن ودعه سينتظر عودته تلك، فلا عيش لروح بلا ماء، ولا جسد بلا روح كذلك لا حياة لنا من دونه، ولهذا كله يستحق الله البديع الذي خلق فأبدع أن نشكره على عطائه الكبير، فهو الذي منحنا هذا الرقيق لينثر عنّا مالا نطيق، فله الحمد أولاً وآخراً.