كيف تطلب من الله شيئاً
كيف تطلُب من الله شيئاً
قال تعالى : " قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ"[53-سورة الزُمر]، وقال أيضاً "وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ ۚ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ" [سورة غافر]، منْ يتمّعن في تفاصيل هاتين الآيتين القُرآنيتين البَديعتيْن، يجِد فيهما مُلخصاً لآليّة العلاقة بين الخالِق والمَخلوق، بيّن الله جلّ في عُلاه، وبيّن عِبادُه الذين يستحِقون أنْ ينتسِبوا بِعبوديتَهِم لله، فكيفَ ذلك؟
منْ هُم عِباد الله الذّين يستحِقون رحمة الله
ما مِنْ عاقِل يستطيع أنْ يتخيّل، علاقِة بين طَرفين، طَرف يعطي كُلْ شيء لعباده، ولا يطلِب منهُم إلا أنْ يَقّروا له بربوبيتِه، وطَرف يأخُذ كل شيء، ويظُن أنّه الحاكِم لهذا الكون، وما أنْ تأتِيه إشارة بسيطة، تُظهِر له مدى قُوة وجبروت الله، ومَدى ضَعفِه وهَوانِه هو، حتى يُسارِع باللّجوء إلى الله، يدعُوه ويبتهِل إلى الله، بأنْ يُذهب عنه علامات غضبِه عليه!
نسِي هؤلاء أو تناسُوا، أنّ الله خالِق كل شيء، وأنّه قد تكفّل للنّاس بالرّزق، ولا يطلُب منهم إلّا أنْ يعبدوه، قال تعالى "وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ{56} مَا أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ{57} إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ{58} " [سورة الذاريات ]، وأنْ يقّرُوا له بجلالة قُدرتِه، وأنْ يُظهروا له إقرارَهم بذلك، في السّر والعَلَن، فإذا توافَق ظَاهِرُ المرء وباطِنُه في الخير، وأقرّ بوجُود الله وآمنَ به وبِرسَالاتِه وأنبيائِه ورُسله، وآمَنَ بأنّ الخير من الله، وأنّ الشّر منْ جنيِ يَديْه، وأسلَم قُيودَه له، سيكون بذلك قدْ اقترَب من أهلّيتُه لِرحمة الله ورعايته.
ما ينبغِي علينا فِعلُه تِجاه الله لنستحِق الطّلب منه
حين يُنادينا الله تعالى، وهو العظيم بِجلاله، والقويّ بسُلطانِه، والمُتفرّد بالتّصرُف في كل أكوانه، حين يُنادينا، لكيْ نُسارع إلى دُعائه، وطَلب كل ما نُريد منه، وأنْ نتوجّه بقلوبنا إليه، وأنْ نسأله وحدهُ لا شريكَ له في ذلك، ولكنّ الكثيرين من الناس، لا يجرَؤون على رفعِ أيديهم إلى السّماء، وطَلَب الخير من ربِّ السّماء والأرض، لأنّهم نَسوا الله في وسعِهِم، وتذّكروه عند حاجتِهم لمُساعدتِه لهم، إلا إذا كانت عودتهِم إليه صادِقة، وتوبتِهم مما اقترفَتْ أيديهم توبةً نَصُوحاً، حينها يشمِلهُم نداء الله حين يُنادي عبادُه قائلاً :"قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ".
وفي موضِع آخر يقول لهم "وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ ۚ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ" ومع كل ذلك، نجد منْ النّاس منْ يجعل مِنْ فرعون الطّاغية قُدوة له، وينسى ما فَعلَه الله بذلك الجاهِل، الذي ظَنَّ أنَّه ربُّ الناس الأعلى، فأخذه الله أخذة رابيّة، وجعله للنّاس مَثلاً، فهل من المَنطِق للإنسان أنْ يُحاول تجرُبة ما قد جرّبه السّابقون، والتاريخ ملِيء بقصَص طواغيت القُرون السّابقة، وقُدرة الله فيهُم.
الدُعاء عِبادة
إنَّ في قول الله تعالى "وقالَ ربُّكم ادعُونِي أَستجِبْ لكم إنَّ الذينَ يستكبِرونَ عنْ عِبادَتي سيَدخُلونَ جَهنَّمَ دَاخِرينَ" دليل واضح على أنّ الدُعاء عِبادة وتقرُّب إلى الله، وأنّ منْ يستكبِر عن الدُعاء، يُعَد مُستكبِراً عن عبادة الله، ويرى في نفسِه طاغوتاً لا ينزِل عن عرشِه، ويتنازَل لِكي يطلُب من غيره شيئاً، إنَّ مَنْ يقرأ التاريخ، يعرِف منْ سِيَر السّابقين، الكثير من الأحداث، التي أثّرت على حياة البّشريّة جمعاء، فمُنذ بدء الخليقة، تأكّدت هذه العلاقة الأزليّة بين الله العزيز الغفور، وبين مَنْ صَلح من عِباده وأنبيائه.
حينَ عصى آدم ربّهُ، ولم يلتزِم بأوامِره ونواهيه، لمْ يجِد من الله مَهرباً، وخجَل منْ مُواجهتِه لله، بعد أنْ انكشفَت عورتُه، وعلِم أنّ الشّيطان قد كاد له، وسعى ليُخرجَه من رحمة الله وجنتِه، حَسداً وكُرهاً، ولولا أنْ تاب الله عليه، لمعرفتِه التّامة بنقاء سريرتِه، وقوة إيمانُه، لَمَا تاب عليه، وما قصة سيدنا إبراهيم عليه السّلام عنا ببعيد، حين كان المُؤمن الوحيد على وجهِ الأرض، وتصدّى للكُفر وأهلِه، بمنْ فيهم أقرَب النّاس إليه، ولكنّه صمدَ في وجههم، وجاهدَ لإعلاء كلمة الله، والدّعوة للإيمان به، فأيّدهُ الله وحَماه، ونجَّاه من بطشِهِم، ولم يُؤمن له من قومِه إلا شخص واحد، لوط عليه السّلام، ولنا في قصة سيدنا موسى عليه السّلام، الكثير الكثير منْ العِبَر، فبعد الذُّل والعُبودية التي أذاقها لهم فرعون وجُنوده، ومن القهِر والقتل والسّبيْ والبطش، أيّد الله سيدنا موسى عليه السلام بقُدرتِه وبطشِه، وأبدلَهم الله بعد كل ذلك، بالأمْن وبالمَنِّ والسّلوى، والماء الجارِي للسُقيّا، وكيف أنَّ الله قد غيّر من قوانين الطّبيعة، من أجل حِماية عبادهُ الصّالحين، ولكن بني إسرائيل لم يتركُوا لغيرِهم المجال، وأصبحوا مثلاً لخيانَة عهدهِم لله، بعد أنْ رأوا الآيات والمُعجزات، وكفرُوا بنعمةِ الله وقُدرته، فأبدلَهم تِيهاً عظيماً، وفِتنة كُبرى، إلا منْ آمنَ منهُم وهُم قليل، وما قصة سيدنا زكريّا عليه السلام وما حدث معه بأقلْ من ذلك عِبرة وموعِظة، فلقد تقدّم به العُمر، ولم يرزُقه الله الذُّرية التي تمنّى، فرفَع يديه إلى الله مُتوسِلاً "رَبِّ هبْ لي مِن لدُنكَ ذُرِّيةً طيِّبَةً إنَّكَ سميعُ الدعاءِ"[ 38]سورة آل عمران.
فما كان من الله إلّا أنْ استجاب له، ورزقَه بسيدنا يحيى عليه السّلام، نبياً من الصّالحين، وما كان مِنْ بني إسرائيل، وقتلِهم الأنبياء وعَصيانِهم لله.
الدُعاء في سِيرة الحبيب
وكَم في قصة رسولنا الحبيب المُصطفى، عليه أزكّى الصّلاة والسّلام، من عِبرْ ومَواعِظ، وصبَر على الشّدائد، وكرِم ومُسامحة، وعَفو عند المَقدِرة، ورأفَة بمن ظلموه من أهلِه وعشيرتِه، والمواقف التي تدُل على ذلك كثيرة، فرغم كونِه يتيماً مُنذ الصّغر، وفقد حنان الأم وعطف الأب، وتنقّل في طفولتِه من بيت إلى آخر، فمِنْ أحضان أمِه آمنة بنت وهب، إلى كنِف جدِه عبد المُطلب سيد قومه، وسادة الكعبة الشّريفة، إلى عمه أبي طالب الذي أحبّه أكثر من أبنائه، حتى ظُهور الإسلام، وبدأ الدّعوة إلى الله، اشتدّ بطشِ قريش عليه وعلى أتباعِه من فُقراء قريش، وبدأت قُريش في تعذيبهُم وإرهابِهم، لكي يعودوا عن الإسلام، لِعبادة الأصّنام والأوثان، فصَبِر وصَبر أتباعه من كِبار الصّحابة، ولم يدعُ عليهم، مع عِلمه أنّ دعوتِه مُستجابة، أملاً في أنْ يهديهم الله، وأنْ يخرج من أصلابِهم منْ يُوحِد الله ويعبده، ويُقّر بوجوده، وكان له ما تمنّى، إذ تبِعهُ في نهاية الأمر، كل قريش إلّا القليل منهُم، كان الرسول الكريم عليه الصّلاة والسّلام نِتاج دعوة سيدنا إبراهيم عليه السّلام حيثُ قال كما جاء في كتاب الله العزيز :"رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ ۚ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ " 129 البقرة.
فكان ما طَلب سيدنا إبراهيم عليه السلام، وجاء محمدٌ عليه الصّلاة والسلام، رحمة للنّاس أجمعين، يدعو بالخير لكل بنِي البَشر، وينشُر الحق، ليهدِي به النّاس حيثما كانوا، وما موقفهُ من ذلك اليهودِي المَيّت، الذي رأى جَنازتِه فسأل أصحابه جنازة منْ هذه، فأخبروه بأنّها جنازة يهودِي مات، فبكى عليه الصّلاة والسّلام، فسألوه ما يُبكيك يا رسول الله؟ قال: "نفسٌ أفلتت منّي دون أنْ أهديها لله" أيْ عظمة هذه؟ وأيْ نقاء يحملُه هذا القلب، كان عليه الصّلاة والسّلام، رحمة للعالمين، بكل ما تحمِله هذه الكلمة من معنى، وما موقفُه من أهلِه وعشيرته عند فتحِه مكة، إلا أكبر دليل على رُقيّ أخلاقه وعظمة رسالتِه وطِيبِ منشئِه.
كُن أهلاً لرحمة الله تنَل رِضاه ورحمتِه
فهل ترى في نفسِك أهلاً لأنْ تطلُب من الله شيئاً، وأنت ذلك العاصِي لأوامره، والباذِل كل جُهدٍ من أجل نواهِيه، راجِع نفسِك وكنْ الحكم عليها، قبل أن تضِيق عليك الدّوائر، وتعتصِرُك الأحزان والنّوازِل، فقبل أنْ ترفع يدَك لله داعياً، سائل نفسك هل رِزقُك حلال أم حرام؟ هل أنت راضٍ عن حياتك؟، ماذا بذلت لتُثبت لله حبك له؟ واتِّباعِك لسُنّة نبيه الكريم عليه الصلاة والسلام وبقيّة رُسله الكِرام، هل وجدت في سِيرتِهِم ما قد يهّز ضميرك، ويُحرِك في داخلك ذلك الشّخص المُتبّلِد الإحساس؟ وتنظُر إلى الفُقراء بعين أخرى، وتنظُر إلى المساكين نظرة من يحتاج لرّحمة الله فترحمهُم ليرحمك الله، هل وقع في نفسِك تلك المَوعِظة؟
خَلاصة تلك القِصص الكثيرة التي ذكرها القُرآن الكريم، ووردت في سيرة الحبيب المصطفى عليه الصلاة والسلام، والعِبرة منها كبيرة ووفيرة، راجياً من الله أنْ تنال منها الفائدة، ولكنّ الفائدة لا تحدُث بالقراءة فقط، إنّما بمُحاولة التّطبيق العملي، لِما تعلمناه من هذه القصص، وأنْ لا نقِف عند حدٍّ معينٍ في التقرُب إلى الله تعالى، لأنّنا مهما بذلنَا منْ جُهد، سنظل مُقصّرين تجاهه، فنِعمهُ علينا ظاهِرة وباطِنة، لا تُعدْ ولا تُحصى، فلنُصلح القلوب، وننظّف الصُدور، ونرفع الأيدي لله الغفور الودود، الواحد المعبود، والمُعطّي بلا حُدود، عسى أنْ نكون أهلاً لعطائه، وننجح في امتحانِه لنا وابتلائه، طَمعاً فيما عنده، واتقاءً له وحده.