-

أسباب هجرة الرسول إلى المدينة المنورة

(اخر تعديل 2024-09-09 11:28:33 )

أسباب هجرة النّبي إلى المدينة

مرَّ المسلمون بكثيرٍ من الظروف التي دفعتهم للتفكير بالهجرة إلى المدينة المنوَّرة فراراً بدينهم ليقيموا دولة الإسلام فيها، ومن هذه الأسباب:[1]

  • الهجرة فُرضت على الأنبياء والمُرسلين لضمان نشر الدَّعوة إلى الله، وحمايتها من بطش الظَّالمين: فالنبي محمَّد -صلى الله عليه وسلم- لم يكن أول من هاجر من وطنه بل كان للأنبياء من قبل هجرات؛ كهجرة نوحٍ، وإبراهيم، وموسى عليهم السلام، فالهجرة مطلبٌ دعويٌّ تقتضيه طبيعة النبوّة ونشرُ الرِسالة.
  • اشتداد إيذاء المشركين للمؤمنين: حيث طال أذى المشركين جميع المسلمين مع الرسول صلى الله عليه وسلم، ولم يكن لهم أحدٌ يحميهم؛ فبلال بن رباح يُجَرَّد من ثيابه ويُطرح على رمال الصَّحراء الحارقة، ويُؤتى بصخرةٍ تُلقى على بطنه بُغية أن يرتدَّ عن دين محمدٍ -صلى الله عليه وسلم- فلا يزيد إلَّا أن يقول: أحدٌ أحد، وعائلة آل ياسر قد أذاقتهم قريش سُوء العذاب من الضَّرب والإهانة والتَّعذيب الشديد، حتى إنَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- مرَّ عليهم مرَّةً وهم يُعذَّبون فقال لهم: (صبراً آل ياسرٍ، فإنَّ موعدكم الجنّةُ)،[2] وقد أذن الله بالهجرة درءاً للأذى والعذاب عن النبي -صلى الله عليه وسلم- وصحبه.
  • حصار قريش للمسلمين: تآمرت قريشٌ على بني هاشم، وكتبوا صحيفةً المقاطعة، وعلَّقوها في جوف الكعبة، كان مضمونها ألا نزوّجهم ولا نتزوّج منهم، ولا نبيعهم ولا نبتاع منهم، كما حاصروهم في الشِّعب، ومنعوا عنهم طعامهم وأموالهم حتى أكل المسلمون أوراق الشَّجر من شدَّة الجوع.
  • تآمر كفار قريش على قتل النبي صلى الله عليه وسلم: فبعد هجرة جميع المسلمين إلى المدينة، وبقاء الرسول -صلى الله عليه وسلم- مع نفرٍ من الصحابة في مكة، اجتمعت قريش في دار النَّدوة، واتَّفقوا على قتله جميعاً حتى يضيع دمه بين القبائل، لكن تدبير الله كان لهم بالمرصاد، فحماه، وأوحى إليه ألا يبيت تلك اللَّيلة في فراشه، وجعل عليَّاً ينام في مكانه، ثمَّ ألقى الله عليهم النُّعاس فجعل الرسول -صلى الله عليه وسلم- يخرج من بينهم ويمرّ من أمامهم بل ويلقي على رؤوسهم التُّراب وهم لا يشعرون.
  • ضرورة بناء الدولة الإسلامية: وهذا يتطلب أمَّةً إسلاميَّةً متماسكة، وأرضاً تكون مركزاً رئيساً لها، وكانت المدينة المنوَّرة هي الأنسب والأصلح لذلك؛ لاستقرار الوضع فيها، وتشابُه اللُّغة والتَّقاليد، والجوُّ العامُّ فيها كان متقبِّلاً ومحبّاً للإسلام، وكان ذلك واضحاً في استقبال الأنصار لهذا الدين ولكل من أتى مهاجراً، وفي استعداد للبذل والتَّضحية في سبيل الله، وقد هيّأت هذه الأرض وهذه الرحلة المسلمين لظروفٍ أشدّ، ولتكاليف أكثر يقوم عليها مشروع بناء الأُمة الإسلامية.[3]

الإسلام في يثرب

منذ أن أُمر النبي -صلى الله عليه وسلم- بنشر الدَّعوة الإسلامية، لم يترك مكاناً أو مناسبةً يتجمَّع فيها النَّاس إلا وسعى إليهم عارضاً عليهم نفسه وما جاء به من عند الله، خاصَّةً في موسم الحج وأيام أسواق العرب؛ فما أن يعلم بقدوم أحدٍ من العرب إلى مكة إلا وتصدَّى لهم، فيعرض عليهم ماعنده، ويدعوهم إلى الله، ويخبرهم أنَّه نبيٌّ مرسلٌ، ويسألهم أن يصدِّقوه ويقوموا معه، فمنهم من كفر وصدَّ، ومنهم من آمن وصدق.[4]

وبينما النبي كذلك يبتدر الأقوام ويبدؤهم بما عنده من حقٍّ لقي نفراً من الخزرج من أهل المدينة في موسم الحج، فكلَّمهم ودعاهم، وعرض عليهم الإسلام، وتلا عليهم القرآن الكريم فأجابوه فيما دعاهم إليه وصدَّقوه، وكان أول من آمن من الخزرج ستة أشخاصٍ حملوا الدِّين الجديد إلى أهلهم في يثرب يعرضونه على النَّاس حتى وصلت دعوة الله إلى كلِّ بيتٍ من بيوتها، فتهافتوا على اعتناق الإسلام خاصّة وأنَّهم كانوا على علمٍ بقرب ظهور نبيٍّ للبشرية من جيرانهم اليهود، وتلا ذلك بيعتا العقبة الأولى، والثَّانية التي وفد بها الأوس والخزرج على النَّبي -صلَّى الله عليه وسلَّم- في مكّة يبايعونه على النُّصرة والإسلام.[5]

بيعتا العقبة

بيعة العقبة الأولى

بعد أن حرَّك النَّفر الأول من المؤمنين في المدينة قضية الإسلام، جاء في العام التَّالي اثنا عشر رجلاً من الأنصار، واجتمعوا برسول الله -صلى الله عليه وسلم- عند جمرة العقبة، وبايعوه على ألَّا يشركوا بالله شيئا، وألَّا يسرقوا، ولا يزنوا، ولا يقتلوا أولادهم، وأن يطيعوه في المعروف، وكان هدفه -صلى الله عليه وسلم- من ذلك أن يبني فرداً مؤمناً يتَّصف بعقيدةٍ سليمةٍ، وبأخلاقٍ حميدةٍ فاضلةٍ، فكان هذا العهد منهم بمثابة تأسيس النُّواة الأولى التي ستقوم على أكتافها الدَّولة الإسلامية بعد ذلك، وبعد ذلك عاد الأنصار إلى يثرب ليستكملوا دعوتهم ونشاطهم هناك، وأصل البيعة في اللغة من البيع، فهي عقدٌ ووفاءٌ بين رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ومن دخل في الإسلام على طاعة الله ورسوله، والاستشعار بروح الجنديَّة في صفّه، كما سُمِّيت هذه البيعة ببيعة النِّساء؛ لأنّها تشبه في شروطها بيعة النِّساء في سورة الممتحنة، حيث لم تتضمَّن الجهاد فلم يكن قد فُرِض بعد، قال تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَن لَّا يُشْرِكْنَ بِاللَّـهِ شَيْئًا وَلَا يَسْرِقْنَ وَلَا يَزْنِينَ وَلَا يَقْتُلْنَ أَوْلَادَهُنَّ وَلَا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّـهَ إِنَّ اللَّـهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ).[6][7]

بيعة العقبة الثانية

بعد لقاء الرسول -صلى الله عليه وسلم- بوفد الأوس والخزرج في بيعة العقبة الأولى، وبعد أن أرسل معهم الصَّحابي مصعب بن عمير يعلِّمهم الإسلام، ويقرئهم القرآن، عاد مسلمو الأنصار في العام التالي في موسم الحجِّ من السَّنة الثانية عشر للبعثة يبايعون رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بيعة العقبة الثانية، أو ما تسمَّى ببيعة العقبة الكبرى، وقد كانوا ثلاثةً وسبعين رجلاً وامرأتان، هما أمُّ عَمَارة نسيبة بنت كعب، وأسماء بنت عمرو، فبايعوه على خمسة أمورٍ في غاية المشقَّة والشِّدَّة؛ فطبيعة هذه المرحلة لا تحتمل الغموض وسوء الفهم، بل إنَّ بناء الأُمَّة الصَّالحة القوية يحتاج إلى عطاءٍ وكفاحٍ، فقد قال صلى الله عليه وسلم: (تُبايعوني على السَّمع والطاعة في النَّشاط والكسل، وعلى النَّفقة في العسرِ واليسر، وعلى الأمرِ بالمعروف، والنَّهي عن المُنكر، وعلى أن تقولوا في الله لا تأخذكُم فيه لومةُ لائِمٍ، وعلى أن تنصروني إذا قَدمتُ يثرِب، فتمنعوني ممَّا تمنعون منه أنفُسكُم وأزواجكُم وأبناءكُم ولكم الجنَّة).[8][9][10]

كما إنَّ العبَّاس عمّ النبي -صلى الله عليه وسلم- كان أوَّل المتكلّمين في هذه البيعة؛ حيث شرح للأنصار خطورة المسؤوليَّة التي ستُلقى على عاتقهم نتيجة هذا التَّحالف وهذا البيع، وفهَّمهم أنَّ محمداً في عزٍّ ومنعةٍ من قومه وبلده، وأنَّه ليس ضعيفاً، وذلك ليأخذهم على محمل الجِدِّ من دعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد كان العبَّاس -رضي الله عنه- يومها على دين قومه لكنه أحبَّ أن يتوثَّق لابن أخيه، وقد أعرب الأنصار عن استعدادهم لنصرة الرسول -صلى الله عليه وسلم- وحمايته وقبول البيعة، بعد ذلك أذن النبي -صلى الله عليه وسلم- للمسلمين بالهجرة إلى المدينة خاصةً بعد أنْ تعهَّد الأوس والخزرج بالنُّصرة، والحماية، والتَّصديق.[11][9]

هجرة المسلمين إلى المدينة

تعتبر الهجرة حدثاً فاصلاً بين مرحلة الدَّعوة في مكَّة المكرَّمة، وبين مرحلة الدَّعوة في المدينة المنورة وتأسيس الدولة، وقد امتدّت آثارها حتى شملت الإنسانية كلّها؛ بتنظيمها لحياة الإنسان وإصلاحها، وقيام الحضارة الإسلامية على أُسُس الحق، والعدل، والحرية، والمساواة، وتُعرّف الهجرة باللغة بأنّها ترك شيءٍ إلى آخر، أو الانتقال من حالٍ إلى حال، أو من بلدٍ إلى بلد، يقول تعالى: (وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ)،[12] وقال أيضًا: (وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا)،[13]والهجرة نوعان؛ هجرةٌ مادية، وهجرةٌ شعورية، أمَّا الهجرة الشعورية فتعني إنكار ومعاداة كل ما لا يرضي الله، أو يخالف شريعة الله، وإظهار ذلك على الجوارح، أو باللسان، أو بالقلب، والعمل على تغييرها؛ كالانتقال بالنَّفس من مرحلةٍ إلى مرحلةٍ أخرى، والانتقال من حالة التَّفرقة إلى حالة الوحدة، قال صلى الله عليه وسلم: (المُسلم من سلم المُسلمُون من لِسانه ويده، والمهاجِرُ من هجر ما نهى اللَّه عنه)،[14] أمَّا الهجرة المادِّيَّة فهي الانتقال من بلاد الشرك إلى بلاد الإسلام، وكلا الهجرتين تعتبران مُكمِّلتين لبعضهما، كالانتقال بالدَّعوة الإسلاميَّة من مرحلة الدعوة إلى مرحلة الدولة.[15]

وقد كانت الهجرة النبوية ثورةً عقائديَّةً على كل ما يخالف شريعة الله وفطرة الإنسان السَّليمة، وشملت آثارُها كلَّ النَّواحي العقائدية، والاجتماعية، والسياسيَّة، والاقتصاديَّة، فقد كان هدف الهجرة النبوية إيجاد محضنٍ للدَّعوة واستقرارها، وإيجاد من يؤيِّدها لاستكمال الهيكل التنظيمي لها، فاستطاع المسلمون من خلالها تغيير أحوالهم كُلياً؛ فانتقلوا من القلَّة إلى الكثرة، ومن الضَّعف إلى القوة، ومن الهزيمة إلى الانتصار.[15]

المراجع

  1. ↑ عطية سالم، دروس الهجرة، صفحة 12-16، جزء 3. بتصرّف.
  2. ↑ رواه الألباني، في فقه السيرة، عن جابر بن عبد الله، الصفحة أو الرقم: 103، حسن صحيح.
  3. ↑ راغب السرجاني، السيرة النبوية، صفحة 13، جزء 13. بتصرّف.
  4. ↑ ابن هشام، السيرة النبوية، مصر: شركة مكتبة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي وأولاده، صفحة 422-425، جزء 1. بتصرّف.
  5. ↑ ابن هشام، السيرة النبوية، مصر: شركة مكتبة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي وأولاده، صفحة 428-431، جزء 1. بتصرّف.
  6. ↑ سورة الممتحنة، آية: 12.
  7. ↑ د. راجح الكردي، شعاع من السيرة النبوية في العهد المكي، الأردن: دار المأمون، صفحة 311-313.بتصرف.
  8. ↑ رواه شعيب الأناؤوط، في تخريج المسند، عن جابر بن عبد الله، الصفحة أو الرقم: 14653، صحيح.
  9. ^ أ ب د. راجح الكردي، شعاع من السيرة النبوية في العهد المكي، الأردن: دار المأمون، صفحة 313-315. بتصرّف.
  10. ↑ د. راغب السرجاني (6-3-2017)، "بنود بيعة العقبة الثانية"، www.islamstory.com، اطّلع عليه بتاريخ 15-5-2019. بتصرّف.
  11. ↑ صفي الرحمن المباركفوري، الرحيق المختوم، بيروت: دار الهلال، صفحة 133-136. بتصرّف.
  12. ↑ سورة المُدَّثر، آية: 5.
  13. ↑ سورة المزَّمِّل، آية: 10.
  14. ↑ رواه البخاري، في صحيح البخاري، عن عبد الله بن عمرو، الصفحة أو الرقم: 6484 ، صحيح.
  15. ^ أ ب نبيه عبد ربه (15-11-2011)، "الهجرة النبوية .. معناها وأهدافها"، www.islamstory.com، اطّلع عليه بتاريخ 14-5-2019. بتصرّف.