حياة بدر شاكر السياب
بدر شاكر السياب
هو شاعر عراقي، وأحد الشعراء المشهورين في القرن العشرين، ولد في قرية جيكور في البصرة يوم 25 ديسمبر للعام 1929، توفت أمه عندما كان يبلغ ست سنوات، فكان لوفاتها أعمق الأثر في نفسه، حيث عززت وفاتها شعوره بالحرمان العاطفي، وأنهى دراسته متخصصاً في اللغة العربية، ومن ثم اللّغة الإنجليزية، وعرف عنه ميله للسياسة وللحزب الشيوعي، فُصل من عمله كمدرس للغة الانجليزية، وانتقل إالى إيران فالكويت؛ وذلك بسبب قيام الثورات الإنقلابية حينئذٍ.
واتصف السياب بالذكاء في شعره، كما أنه تأثر بالمراحل المعيشية التي عاشها، وتقلبات الحياة التي حدثت معه، من حيث التغير الاجتماعي والفكري والسياسي، وبات شعوره بالألم الشديد في قلبه الحساس جداً مبعثاً للتشاؤم، وقتل الأمل في الحياة، وتكاثف لديه هذا الشعور، عندما لم يفلح بالبحث عن امرأة حياته، فوأد الأمل بالتمام.
تنقل السياب بين عدة وظائف ما بين التعليم والعمل في السفارة الباكستانية ومصلحة الموانئ، ولجأ عبر ذلك للنزعة الواقعية في أشعاره، فصار يحلل خصائص مجتمعه، ويصفها وصفاً دقيقاً، فيه من الحقائق كل ما يراه شاعر بنفاذ بصره وبصيرته، وصور واقع بلده - العراق- بالأليم، وراح يعاني معهن ويتالم لآلامه.
شخصيته
وكان بدر شاكر السياب متوسط الطول، نحيفاً، حنطي البشرة، ذا أنف كبير بعض الشيء، وأذنين كبيرتين، ووجه نحيف صغير، وعينين صغيرتين، ورقبة نحيفة وطويلة، وشفتين لا تنطبقان، وكان محروم من حنان أمه، فانعكس ذلك على شخصيته، حيث أراد أن يحرم الجميع مما حرم منه هو، فازدادت نقمته على مجتمعه، وزاد تشاؤمه، وصار يسلك دروب متعرجة؛ ليصب غضبه عليها من خلال شعره، وكثيراً ما تمنى الموت وتساءل عن مصيره.
وكان السياب يقرأ كل شيء، وكان يقرأ لوليم شكسبير والكتاب البريطانيين والإيطاليين، وساعده على الإبحار في المعارف الغربية معرفته باللغة الإنجليزية، ففي ذات الوقت الذي يقرأ به كتب الدين يقرأ الكتب اليسارية، وهكذا كان عقله موسوعة معرفية شاملة ومتناقضة، طوعها في سبيل أشعاره، فكان مرهف الحس، يبوح بخلجات النفس ونبض الوجدان.
من المعروف عن بدر شاكرالسيّاب حبه الشديد للمطالعة والبحث، وقراءة جميع الكتب والأبحاث التي تقع بين يده على اختلاف مواضيعها، يقول صديقه الأستاذ فيصل الياسري : «وكان السياب قارئاً مثابراً فقد قرأ الكثير في الأدب العالمي والثقافة العالميّة، كما أنه قرأ لكبار الشعراء المعاصرين قراءة أصيلة عن طريق اللغة الإنكليزية التي كان يجيدها . وكان يقرأ الكتب الدينية كما يقرأ الكتب اليسارية !!»
أعماله الشعرية
- أزهار ذابلة -1947.
- أساطير- 1950.
- المومس العمياء -1954.
- الأسلحة والأطفال - 1955.
- حفار القبور وأنشودة المطر- 1960.
- المعبد الغريق-1962.
- منزل الأقنان -1963.
- شناشيل ابنة الجلبي - 1694.
- إقبال - 1965.
- قيثارة الريح- وزارة الأعلام العراقية - 1971
- أعاصير - وزارة الأعلام العراقية - 1972
- الهدايا - دار العودة بالاشتراك مع دار الكتاب العربي- 1974
- البواكير - دار العودة بالاشتراك مع دار الكتاب العربـي- 1974
- فجر السلام - دار العودة بالاشتراك مع دار الكتاب العربي-- 1974
الترجمات الشعرية
- عيون إلزا أو الحب والحرب : عن أراغون.
- قصائد عن العصر الذري : عن ايدث ستويل.
- قصائد مختارة من الشعر العالمي الحديث.
- قصائد من ناظم حكمت .
الترجمات النثرية
- ثلاثة قرون من الأدب .
- الشاعر والمخترع والكولونيل: مسرحية من فصل واحد لبيتر أوستينوف.
قصائده
عينان زرقاوان
عينان زرقاوان.. ينعس فيهما لون الغدير
أرنو فينساب الخيال وينصت القلب الكسير
وأغيب في نغم يذوب.. وفي غمائم من عبير
بيضاء مكسال التلوي تستفيق على خرير
ناءٍ.. يموت وقد تثاءب كوكب الليل الأخير
يمضي على مهل وأسمع همستين.. وأستدير
فأذوب في عينين ينعس فيهما لون الغدير
حسناء يا ظل الربيع، مللت أشباح الشتاء
سوداً تطل من النوافذ كلما عبس المساء
حسناء.. ما جدوى شبابي إن تقضى بالشقاء
عيناك.. يا للكوكبين الحالمين بلا انتهاء
لولاهما ما كنت أعلم أن أضواء الرجاء
زرقاء ساجية.. وأن النور من صنع النساء
هي نظرة من مقلتيك وبسمة تعد اللقاء
ويضيء يومي عن غدي، وتفر أشباح الشتاء
عيناك.. أم غاب ينام على وسائد من ظلال
ساج تلثم بالسكون فلا حفيف ولا انثيال
إلا صدى واه يسيل على قياثر في الخيال
إني أحس الذكريات يلفها ظل ابتهال..
في مقلتيك مَدى تذوب عليه أحلام طوال،
وغفا الزمان.. فلا صباح ..ولا مساء ولا زوال!
أني أضيع مع الضباب سوى بقايا من سؤال:
عيناك.. أم غاب ينام على وسائد من ظلال!
أنشودة المطر
عيناكِ غابتا نخيلٍ ساعةَ السحَرْ ،
أو شُرفتان راح ينأى عنهما القمر .
عيناك حين تبسمان تورق الكرومْ
وترقص الأضواء ... كالأقمار في نهَرْ
يرجّه المجذاف وهْناً ساعة السَّحَر
كأنما تنبض في غوريهما ، النّجومْ ...
وتغرقان في ضبابٍ من أسىً شفيفْ
كالبحر سرَّح اليدين فوقه المساء ،
دفء الشتاء فيه وارتعاشة الخريف ،
والموت ، والميلاد ، والظلام ، والضياء ؛
فتستفيق ملء روحي ، رعشة البكاء
ونشوةٌ وحشيَّةٌ تعانق السماء
كنشوة الطفل إِذا خاف من القمر !
كأن أقواس السحاب تشرب الغيومْ
وقطرةً فقطرةً تذوب في المطر ...
وكركر الأطفالُ في عرائش الكروم ،
ودغدغت صمت العصافير على الشجر
أنشودةُ المطر ...
مطر ...
مطر ...
مطر ...
تثاءب المساء ، والغيومُ ما تزالْ
تسحُّ ما تسحّ من دموعها الثقالْ .
كأنِّ طفلاً بات يهذي قبل أن ينام :
بأنَّ أمّه – التي أفاق منذ عامْ
فلم يجدها ، ثمَّ حين لجّ في السؤال
قالوا له : "بعد غدٍ تعودْ .. "
لا بدَّ أن تعودْ
وإِنْ تهامس الرفاق أنهَّا هناكْ
في جانب التلّ تنام نومة اللّحودْ
تسفّ من ترابها وتشرب المطر؛
كأن صياداً حزيناً يجمع الشِّباك
ويلعن المياه والقَدَر
وينثر الغناء حيث يأفل القمرْ.
مطر ..
مطر ..
أتعلمين أيَّ حُزْنٍ يبعث المطر ؟
وكيف تنشج المزاريب إِذا انهمر ؟
وكيف يشعر الوحيد فيه بالضّياع ؟
بلا انتهاء – كالدَّم المراق ، كالجياع ،
كالحبّ ، كالأطفال ، كالموتى – هو المطر !
ومقلتاك بي تطيفان مع المطر
وعبر أمواج الخليج تمسح البروقْ
سواحلَ العراق بالنجوم والمحار ،
كأنها تهمّ بالشروق
فيسحب الليل عليها من دمٍ دثارْ .
أَصيح بالخليج : " يا خليجْ
يا واهب اللؤلؤ، والمحار، والرّدى !
فيرجعُ الصّدى
كأنّه النشيجْ :
" يا خليج
يا واهب المحار والردى .. "
أكاد أسمع العراق يذْخرُ الرعودْ
ويخزن البروق في السّهول والجبالْ ،
حتى إِذا ما فضَّ عنها ختمها الرّجالْ
لم تترك الرياح من ثمودْ
في الوادِ من أثرْ .
أكاد أسمع النخيل يشربُ المطر
وأسمع القرى تئنّ ، والمهاجرين
يصارعون بالمجاذيف وبالقلوع ،
عواصف الخليج ، والرعود ، منشدين :
مطر ...
مطر...
مطر ...
وفي العراق جوعْ
وينثر الغلالَ فيه موسم الحصادْ
لتشبع الغربان والجراد
وتطحن الشّوان والحجر
رحىً تدور في الحقول ... حولها بشرْ
مطر ...
مطر ...
مطر ...
وكم ذرفنا ليلة الرحيل ، من دموعْ
ثم اعتللنا – خوف أن نلامَ – بالمطر ...
مطر ...
مطر ...
ومنذ أنْ كنَّا صغاراً ، كانت السماء
تغيمُ في الشتاء
ويهطل المطر،
وكلَّ عام – حين يعشب الثرى – نجوعْ
ما مرَّ عامٌ والعراق ليس فيه جوعْ .
مطر ...
مطر ...
مطر ...
في كل قطرة من المطر
حمراءُ أو صفراء من أجنَّة الزَّهَرْ .
وكلّ دمعةٍ من الجياع والعراة
وكلّ قطرة تراق من دم العبيدْ
فهي ابتسامٌ في انتظار مبسم جديد
أو حُلمةٌ تورَّدتْ على فم الوليدْ
في عالم الغد الفتيّ ، واهب الحياة !
مطر ...
مطر ...
مطر ...
سيُعشبُ العراق بالمطر ...
أصيح بالخليج : " يا خليج ..
يا واهب اللؤلؤ ، والمحار ، والردى
فيرجع الصدى
كأنَّه النشيج :
" يا خليج
يا واهب المحار والردى . "
وينثر الخليج من هِباته الكثارْ ،
على الرمال، رغوة الأُجاجَ، والمحار
وما تبقّى من عظام بائسٍ غريق
من المهاجرين ظلّ يشرب الردى
من لجَّة الخليج والقرار ،
وفي العراق ألف أفعى تشرب الرَّحيقْ
من زهرة يربُّها الفرات بالنَّدى .
وأسمع الصدى
يرنّ في الخليج
مطر..
مطر ..
مطر ..
في كلّ قطرة من المطرْ
حمراء أو صفراء من أجنَّةِ الزَّهَر
وكلّ دمعة من الجياع والعراة
وكلّ قطرةٍ تراق من دم العبيدْ
فهي ابتسامٌ في انتظار مبسمٍ جديد
أو حُلمةٌ تورَّدت على فم الوليدْ
في عالم الغد الفتيّ ، واهب الحياة .
قصيدة إلى العراق الثائر
عملاء قاسم يطلقون النار آه على الربيع
سيذوب ما جمعوه من مال حرام كالجليد
ليعود ماء منه تطفح كل ساقية يعيد
ألق الحياة إلى الغصون اليابسات فتستعيد
ما لص منها في الشتاء القاسمي فلا يضيع
يا للعراق
يا للعراق أكاد ألمح عبر زاخرة البحار
في كل منعطف و درب أو طريق أو زقاق
عبر الموانئ و الدروب
فيه الوجوه الضاحكات تقول قد هرب التتار
و الله عاد إلى الجوامع بعد أن طلع النهار
طلع النهار فلا غروب
يا حفصة ابتسمي فثغرك زهرة بين السهوب
أخذت من العملاء ثأرك كف شعبي حين ثار
فهوى إلى سقر عدو الشعب فانطلقت قلوب
كانت تخاف فلا تحن إلى أخ عبر الحدود
كانت على مهل تذوب
كانت إذا مال الغروب
رفعت إلى الله الدعاء ألا أغثنا من ثمود
من ذلك المجنون يعشق كل أحمر فالدماء
تجري و ألسنة اللهيب تمد يعجبه الدمار
أحرقه بالنيران تهبط كالجحيم من السماء
و اصرعه صرعا بالرّصاص فإنّه شبح الوباء
هرع الطبيب إليّ آه لعلّه عرف الدواء
للداء في جسدي فجاء
هرع الطبيب إليّ و هو يقول ماذا في العراق
الجيش ثار و مات قاسم أيّ بشرى بالشّفاء
و لكدت من فرحي أقوم أسير أعدو دون داء
مرحى له أي انطلاق
مرحى لجيش الأمة العربية انتزع الوثاق
يا أخوتي بالله بالدم بالعروبة بالرجاء
هبّوا فقد صرع الطغاة و بدّد الليل الضياء
فلتحرسوها ثورة عربيّة صعق الرّفاق
منها وخر الظالمون
لأن تموز استفاق
من بعد ما سرق العميل سناه فانبعث العراق
ربيع الجزائر
سلاما بلاد اللظى و الخراب
و مأوى اليتامى و أرض القبور
أتى الغيث و انحلّ عقد السحاب
فروى ثرى جائعا للبذور
و ذاب الجناح الحديد
على حمرة الفجر تغسل في كل ركن بقايا شهيد
و تبحث عن ظامئات الجذور
و ما عاد صبحك نارا تقعقع غضبي و تزرع ليلا
و أشلاء قتلى
و تنفث قابيل في كلّ نار يسفّ الصديد
و أصبحت في هدأة تسمعين نافورة من هتاف
لديك يبشّر أن الدّجى قد تولى
و صبحت تستقبلين الصباح المطلاّ
بتكبيرة من ألوف المآذن كانت تخاف
فتأوي إلى عاريات الجبال
تبرقع أصداءها بالرمال
بماذا ستستقبلين الربيع ؟
ببقيا من الأعظم البالية
لها شعلة رشّت الدالية
تعير العناقيد لون النجيع
وفي جانبي كل درب حزين
عيون تحدّق تحت الثرى
تحدق في عورة العاجزين
لو تستطيع الكلام
لصبّت على الظالمين
حميما من اللعنات من العار من كل غيظ دفين
ربيعك يمضغ قيح السلام
بيوتك تبقى طوال المساء
مفتّحة فيك أبوابها
لعل المجاهد بعد انطفاء اللهيب و بعد النوى و العناء
يعود إلى الدار يدفن تحت الغطاء
جراحا يفرّ إليه الصغار ترفرف أثوابها
يصيحون بابا فيفطر قلب المساء
و ماذا حملت لنا من هديّة
غدا ضاحكا أطلعته الدماء
و كم دارة في أقاصي الدروب القصيّة
مفتحة الباب تقرعه الريح في آخر الليل قرعا
فتخرج أو الصغار
و مصباحها في يد أرعش الوجد منها
يرود الدجى ما أنار
سوى الدرب قفر المدى و هي تصغى و ترهف سمعا
و ما تحمل الريح إلا نباح الكلاب البعيد
فتخفت مصباحها من جديد
و لما استرحنا بكينا الرفاق
هماس لأنبييس عبر القرون
وها أنت تدمع فيك العيون
و تبكين قتلاك
نامت وغى فاستفاق
بك الحزن عاد اليتامى يتامى
ردى عاد ما ظنّ يوما فراق
سلاما بلاد الثكالى بلاد الأيامى
سلاما
سلاما
لأني غريب
لأنّي غريب
لأنّ العراق الحبيب
بعيد و أني هنا في اشتياق
إليه إليها أنادي : عراق
فيرجع لي من ندائي نحيب
تفجر عنه الصدى
أحسّ بأني عبرت المدى
إلى عالم من ردى لا يجيب
ندائي
و إمّا هززت الغصون
فما يتساقط غير الردى
حجار
حجار و ما من ثمار
و حتى العيون
حجار و حتى الهواء الرطيب
حجار يندّيه بعض الدم
حجار ندائي و صخر فمي
و رجلاي ريح تجوب القفار
سفر أيوب
لك الحمد مهما استطال البلاء
ومهما استبدّ الألم
لك الحمد، إن الرزايا عطاء
وإن المصيبات بعض الكرم
ألم تُعطني أنت هذا الظلام
وأعطيتني أنت هذا السّحر؟
فهل تشكر الأرض قطر المطر
وتغضب إن لم يجدها الغمام؟
شهور طوال وهذي الجراح
تمزّق جنبي مثل المدى
ولا يهدأ الداء عند الصباح
ولا يمسح اللّيل أوجاعه بالردى
ولكنّ أيّوب إن صاح صاح:
لك الحمد، إن الرزايا ندى
وإنّ الجراح هدايا الحبيب
أضمّ إلى الصّدر باقاتها
هداياك في خافقي لا تغيب
هداياك مقبولة. هاتها
أشد جراحي وأهتف
بالعائدين:
ألا فانظروا واحسدوني
فهذى هدايا حبيبي
جميل هو السّهدُ أرعى سما
بعينيّ حتى تغيب النجوم
ويلمس شبّاك داري سناك
جميل هو الليل أصداء يوم
وأبواق سيارة من بعيد
وآهاتُ مرضى، وأم تُعيد
أساطير آبائها للوليد
وغابات ليل السُّهاد الغيوم
تحجّبُ وجه السماء
وتجلوه تحت القمر
وإن صاح أيوب كان النداء:
لك الحمد يا رامياً بالقدر
ويا كاتباً، بعد ذاك، الشّفاء
المسيح بعد الصلب
بعدما أنزلوني ، سمعت الرياح
في نواح طويل تسف النحيل
و الخطى وهي تنأى . إذن فالجراح
و الصليب الذي سمروني عليه طوال الأصيل
لم تمتني . و أنصت : كان العويل
يعبر السهل بيني و بين المدينه
مثل حبل يشد السفينه
وهي تهوي إلى القاع . كان النواح
مثل خيط من النور بين الصباح
و الدجى ، في سماء الشتاء الحزينه ثم تغفو ، على ما تحس ، المدينه
حينما يزهر التوت و البرتقال
حين تمتد جيكور حتى حدود الخيال
حين تخضر عشباً يغني شذاها
و الشموس التي أرضعتها سناها
حين يخضر حتى دجاها
يلمس الدفء قلبي ، فيجري دمي في ثراها
قلبي الشمس إذا تنبض الشمس نورا
قلبي الأرض ، تنبض قمحا ، و زهرا ، وماء نميرا
قلبي الماء ، قلبي هو السنبل
موته البعث ، يحيا بمن يأكل
في العجين الذي يستدير
ويدحى كنهد صغير ، كثدي الحياه
مت بالنار : أحرقت ظلماء طيني ن فظل الإله
كنت بدء ، وفي البدء كان الفقير
مت ، كي يؤكل الخبز باسمي، لكي يزرعوني مع الموسم
كم حياة سأحيا : ففي كل حفره
صرت مستقبلا ، صرت بذره
صرت جيلا من الناس ، في كل قلب دمي
قطرة منه أو بعض قطره
هكذا عدت ، فاصفر لما رآني يهوذا
فقد كنت صره
كان ظلا ، قد اسود مني ، وتمثال فكره
جمدت فيه واستلت الروح منها
خاف أن تفضح الموت في ماء عينيه
عيناه صخره
راح فيها يواري عن الناس قبره
خاف من دفئها ، من محال عليه ، فخبر عنها
- " أنت ؟ أم ذاك ظلي قد ابيض وارفض نورا؟
أنت من عالم الموت تسعى ؟ هو الموت مره
" هكذا قال آباؤنا ، هكذا علمونا ، فهل كان زورا ؟
ذاك ما ظن لما رآني ، وقالته نظره
قدم تعو ، قدم ، قدم
القبر يكاد بوقع خطاها ينهدم
أترى جاءوا ؟ من غيرهم ؟
قدم .. قدم .. قدم
ألقيت الصخر على صدري
.أو ما صلبوني أمس ؟ .. فها أنا في قبر
فليأتوا - إني في قبري
من يدري أني .. ؟ من يدري ؟
ورفاق يهوذا ؟ من سيصدق ما زعموا ؟
قدم
قدم
ها أنا الآن عريان في قبري المظلم
،كنت بالأمس ألتف كالظن ، البرعم
،تحت أكفاني الثلج ، يخضل زهر الدم
كنت كالظل بين الدجى و النهار
.ثم فجرت نفسي كنوزا فعريتها كالثمار
حين فصلت جيبي قماطا وكمي دثار
حين دفأت يوما بلحمي عظام الصغار
حين عريت جرحي ، وضمدت جرحا سواه
.حطم السور بيني و بين الإله
فاجأ الجند حتى جراحي ودقات قلبي
فاجأوا كل ما ليس موتا و إن كان في مقبره
فاجأوني كما فاجأ النخلة المثمره
.سرب جوعى من الطير في قرية مقفره
أعين البندقيات يأكل دربي
شرع تحلم النار فيها بصلبي
إن تكن من حديد ونار ، فأحداق شعبي
من ضياء السموات ، من ذكريا وحب
تحمل العبء عني فيندى صليبي ، فما أصغره
.ذلك الموت ، موتي ، وما أكبره
بعد أن سمروني و ألقيت عيني نحو المدينه
كان شئ ، مدى ما ترى العين
كالغابة المزهره
كان ، في كل مرمى ، صليب و أم حزينه
قدس الرب
هذا مخاض المدينه
ابن الشهيد
و تراجع الطوفان لملم كل أذيال المياه
و تكشف قمم التلال سفوحها و قرى السهول
أكواخها و بيوتها خرب تناثر في فلاه
عركت نيوب الماء كل سقوفها و مشى الذبول
فيما يحيط بهن من شجر فآه
آه على بلدي عراقي : أثمر الدم في الحقول
حسكا و خلف جرحة التتري ندبا في ثراه
يا للقبور كأن عاليها سفلا و غار إلى الظلام
مثل البذور تنام ظلم الثمار و لا تفيق
يتنفس الأحياء فيها كل وسوسة الرغام
حتى يموتوا في دجاها مثلما اختنق الغريق
جثث هنا ودم هناك
وفي بيوت النمل مد من الجفون
سقف يقرمده النجيع و في الزوايا
صفر العظام من الحنايا
ماذا تخلف في العراق سوى الكآبه و الجنون
أرأيت أرملة الشهيد
الوزج مد عليه من ترب لحافا ثم نام
متمددا بأشد ما تجد العظام
من فسحة سكنت يداه على الأضالع
و العيون
تغفو إلى أبد الإله إلى القيامة في سلام
رمت الرداء العسكري و نشرته على الوصيد
لثمته فانتفض القماش يرد برد الموت
برد المظلمات من القبور
يا فكرها عجبا ثقبت بنارك الأبد البعيد
يا فكر شاعرة يفتش عن قواف للقصيد
ماذا وجدت وراء أمسي و عبر يومّك من دهور
الثأر يصرخ كل عرق كل باب
في الدار يا لفم تفتّح كالجحيم من الصخور
من كل ردن في الرداء من النوافذ و الستور
من عيني ابنك يا شهيد تسائلان بلا جواب
عنك الأسرة و الدروب و تسألان عن المصير
مذ ألبسته الأم ثوبك في معاركك الأثير
و يداه في الردنين ضائعتان و الصدر الصغير
في صدرك الأبوي عاصفة تغلف بالسحاب
ورنا إلى المرآة
أبصرت فيه شخصك في الثياب
أبني كان أبوك نبعا من لهيب من حديد
سوراً من الدم و الرعود
ورماه بالأجل العميل فخر واها كالشهاب
لكن لمحا منه شع وفض اختام الحدود
و أضاء وجه الفوضوي ينز بالدم و الصديد
و كأن في أفق العروبة منه خيطا من رغاب
و تنفس الغد في اليتيم و مد في عينيه شمسه
فرأى القبور يهب موتاهن فوجا بعد فوج
أكفانها هرئت
و لكن الذي فيها يضم إليه أمسه
ويصيح يا للثار يا للثار
يصدى كل فج
و ترنّ أقيبة المساجد و المآذن بالنداء
و ينام طفلك و هو يحلم بالمقابر و الدماء
يوم الطغاة الأخير
إلى الملتقى و انطوى الموعد
و ظل الغد
غد الثائرين القريب
يدا بيد من غمار اللهيب
سنرقى إلى القمة العالية
و شعرك حقل حباه المغيب
أزاهير القانية
نرى الشمس تنأى وراء التلال
و بين الظلال
قد رف مثل الجناح الكسير
على كومة منحطام القيود
على عالم بائد لن يعود
سناها الأخير
تقولين لي هل رأيت النجوم
أأبصرتها قبل هذا المساء
لها مثل هذا السّنا و النّقاء
تقولين لي هل رأيت النجوم
و كم أشرقت قبل هذا المساء
على عالم لطخته الدماء
دماء المساكين و الأبرياء
تقولين لي هل رأيت النجوم
تطل على أرضنا و هي حرّه
لأول مرّة
نعم أمس حين التفتّ إليك
تراءين كالهجس في مقلتيك
و إذ يستضيء المدى بالحريق
فيندكّ سجن و يجلى طريق
و يذكي بأطيافه الدافئة
محيّاك باللهفة الهانئة
تقولين نحن ابتداء الطريق
و نحن الذين اعتصرنا الحياة
من الصّخر تدمى عليه الجباه
و يمتص ريّ الشفاه
من الموت في موحشات السجون
من البؤس من خاويات البطون
لأجيالها الآتية
لنا الكوكب الطالع
و صبح الغد الساطع
وآصاله الزاهيه
وفاته
في عام 1961 بدأ بدر شاكر السياب يشكو من آلام في أسفل ظهره، وعلى إثرها تنقل لدول عديدة طلباً وبحثاً عن علاج، فسافر إلى باريس ولندن وبيروت وبغداد، ثم أعطاه مستشفى كويتي الرعاية الكاملة وعلى نفقته، فبقي هناك وقد ظهرت عليه أمراض الضمور وثقل الحركة، إلى أن توفي سنة 1964 عن عمر 38 عاماً.