إنّ من تمام الأخلاق التي جاء الإسلام منادياً بها، الوفاء لأهل الفضل والإحسان، والله تعالى بدأ بنفسه فقال: (وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ)،[1] وكلّما كان فضل المحسِن أعظم؛ استحقّ الإحسان والوفاء لفضله أكثر، وعظُم في جنبه الإنكار وسوء الخُلُق أكثر، وإنّ أولى الناس بالوفاء، والإحسان، وردّ الجميل هما الوالدان، فهما أعظم من يتفضّل على ابنهما بعد فضل الله تعالى عليه، ولذلك فقد أمر الإسلام ببرّ الوالدين، وكرّر ذلك مراراً في القرآن الكريم، وبالمثل فقد حذّر، وعظّم من قبحِ العقوق، ونفّر منه حتى لا يقع فيه أحد ٌمن المسلمين، قال النبي -صلّى الله عليه وسلّم- موضّحاً عِظم العقوق في ميزان الله تعالى: (الإشراكُ باللَّهِ، وعُقوقُ الوالِدَينِ)،[2] فكانت أكبر الكبائر بعد الشرك بالله سبحانه، ولقد ورد عن الفضيل بن عياض -رحمه الله- أنّه قال: (فَوْقَ كُلِّ فُجُورٍ فُجُورٌ، حَتَّى يَعُقَّ وَالِدَيْهِ)، فليس بعد العقوق ذنبٌ أعظم منه كما رأى ابن عياض.[3]
وزيادةً في التنفير والتحذير من قبح العقوق، فقد لعن الله تعالى العاقّ لوالديه كما أخبر النبي عليه السلام، وعُدّ العقوق من موانع قبول العمل الصالح، فلا يُقبل عمل من عقّ والديه، وأغضبهما، ولقد ذكر النبي -عليه السلام- الأعمال الصالحة، وفضلها يوم القيامة ثمّ قال: (من مات على هذا كان مع النَّبيِّين، والصدِّيقينَ، والشُّهداءِ يومَ القيامةِ هكذا، ونصب إصبعَيه ما لم يَعَقَّ والدَيه)،[4] ولقد عجّل الله تعالى عقوبة العاق له في الدنيا، وذلك زيادةً في التقريع والتحذير، فقال النبي عليه السلام: (بابان معجّلانِ عقوبتهُما في الدنيا: البَغْيُ، والعُقوقُ)،[5] ولقد حرّم الله تعالى على عباده عقوق الوالدين حتّى ولو كانا مشركين، فأوضح أنّ الطاعة واجبةً لهما فيما لا يمسّ محرّماً، أو يصيب ذنباً، وما خلا ذلك فعلى المسلم أن يتحرّى رضا والديه، وراحتهما، ويتمّم برّهما على أكمل وجه، قال الله تعالى: (وَإِن جَاهَدَاكَ عَلَى أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ).[6][3]
لا شكّ أن من أغضب والديه قد أصاب ذنباً عظيماً، بل فإنّه قد اقترف أكبر الكبائر بعد الإشراك بالله، وهذا إثمٌ عظيمٌ يحتاج صاحبه إلى ما يكفّر ذنبه حاجةً ملحّةً، وقد ورد عن علماء الفقه أنّ الكبائر لا تُمحى بالأعمال الصالحة، بل يحتاج صاحبها إلى توبةٍ نصوحٍ يحقّق شروطها حتّى يقبله الله تعالى،[7] وإنّ من فضله -سبحانه- على عباده أن جعل باب التوبة مفتوحاً لمن شاء، مهما عظُم ذنبه أو طال، يقول الله تعالى: (قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ)،[8] وحتى تُقبل توبة العبد عليه أن يحقّق شروطاً عدّة، بيانها فيما يأتي:[9][10]
أمّا من تاب من ذنبه بعد أن توفّي والديه، فهُناك رأيٌ يقول إنّ الندم توبةً، فيكفيه الندم على ما فات؛ ذلك لأنّه لن يتحقّق إلّا هذا الشرط من شروط التوبة، وهناك من زاد عليه القول: إنّ الله تعالى جعل باب الإحسان، والبرّ للوالدين حتى بعد وفاتهما، وإنّ ممّا يستطيع الإنسان أن يكرم والديه به من فضل بعد وفاتها ما يأتي:[9]
هناك أفعالٌ كثيرةٌ قد تصدر من الابن تجاه والديه، تصنّف على أنّها عقوقٌ، فيجب الحذر منها، فمن هذه المظاهر عقوق الوالدين ما يأتي:[14]