القِبلة في اللغة هي الجهة، أمّا في الاصطلاح فهي الوجهة التي يستقبلها المسلمون في صلاتهم، وهي الكعبة المشرّفة،[1] وقد فُرضت الصّلاة على الرّسول -صلّى الله عليه وسلّم- وعلى المسلمين في ليلة الإسراء والمعراج، وكان ذلك قبل الهجّرة النبويّة بخمس سنوات، فأمر الله -تعالى- حينها أن يكون بيت المقّدس قبلة المسلمين، فصلّى الرّسول -صلّى الله عليه وسلّم- باتجاه بيت المقّدس، وقد كانت رغبة النبيّ -صلّى الله عليه وسلّم- أن يصلّي تجاه الكعبة، ولقد جاء الرّسول -صلّى الله عليه وسلّم- حنيفاً على ملّة إبراهيم عليه السّلام، لذلك ودّ الرّسول -عليه السّلام- أن تكون قبلته الكعبة المشرّفة، حتّى إنّه كان يقف خلف الكعبة بين الركنين ويستقبل صخرة بيت المقدس فيصلّي، ثمّ هاجر إلى المدينة المنوّرة فمكث فيها ستة عشر شهراً مولّياً وجهه نحو الشّامّ، وقد كان كثير الدّعاء والإلحاح على الله -تعالى- بأن يجعل الكعبة المشرّفة هي قبلة المسلمين حتّى أذن الله -تعالى- بذلك وأجاب دعاءه.[2][3]
كان النبيّ -صلّى الله عليه وسلّم- في زيارة لأحد القبائل وشرع في صلاة الظُّهْر حين نزل عليه الأمر بتغيير القبلة، فحوّلها وهو راكع فسُمّي المسجد الذي كان يصلّي فيه مسجد القبلتين، وهو مسجد بني سلمة، وقد تأخّر وصول الخبر إلى المسلمين في قباء لفجر اليوم التالي، وفيما يأتي بيان ذلك:[4]
استجاب الله -تعالى- دعاء النبيّ -صلّى الله عليه وسلّم- ورغبته في تحويل القِبلة إلى الكعبة المشرّفة، قال الله تعالى: (قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ)،[5] وقد ورد في كشف المُشكل لابن الجوزيّ أنّ رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- زار أمّ بشير بن البراء بن معرور، فتغدّى وأصحابه وجاءت الظُّهْر، فصلّى بِأصحابه في مسجد القبلتين ركعتين من الظُّهْر إلى الشّام وأُمر أن يستقبل الكعبة وهو راكع في الركعة الثّانية، فاستدار إلى الكعبة واستدارت الصّفوف خلفه ثمّ أتمّ الصّلاة، فسُمّي مسجد القبلتين لهذا، وقد كان النبيّ -صلّى الله عليه وسلّم- حينها في مسجد بني سلمة، فسمّي بهذا الاسم لأنّ النبيّ تحوّل فيه من القِبلة الأولى وهي بيت المقدس إلى الكعبة المشرّفة.
روى ابن عمر -رضي الله عنه- أنّه عندما نزل الأمر بتحويل القِبلة على الرّسول صلّى الله عليه وسلّم؛ لم يعلم أهل قُباء بالخبر إلّا أثناء صلاة الفجر في اليوم التالي، حيث قال: (بينا النّاسُ بقُباءٍ في صلاةِ الصّبحِ، إذ جاءهم آتٍ فقال: إنّ رسولَ اللهِ -صلّى الله عليه وسلّم- قد أُنزِلَ عليه الليلةَ قرآنٌ، وقد أُمِرَ أن يَستقبلَ الكعبةَ، فاسْتقْبِلوها، وكانت وجوهُهم إلى الشامِ، فاستَدَاروا إلى الكعبةِ).[6]
أمر الله -تعالى- إبراهيم -عليه السّلام- برفع قواعد الكعبة المشرّفة، فانطلق ملبّياً أمر الله -تعالى- هو وابنه إسماعيل عليهما السلام، قال الله تعالى: (وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ)،[7] ثمّ دعا الله -تعالى- أن يبعث للأمّة نبيّاً عربيّاً من نسله؛ ليعلّمهم الدّين والإيمان والحِكمة، فاستجاب الله -تعالى- له، فكان إرسال النبيّ محمّد صلّى الله عليه وسلّم،[8] وعندما بُعث الرّسول -صلّى الله عليه وسلّم- أًمر بالصّلاة نحو بيت المقّدس، لكنّ قلبه بقي معلّقاً بالكعبة راغباً أن يتوجّه نحوها بالصّلاة،[9] ثمّ اقتضي حكمة الله -تعالى- أن يولّي النبيّ -صلّى الله عليه وسلّم- ومَن معه من المسلمين قبلتهم إلى المسجد الحرام.[2]
إنّ الله -تعالى- جعل حِكمة في كلّ شيء قدّره، وقد كان في تحويل قِبلة المسلمين من بيت المقّدس إلى الكعبة المشرّفة عدّة دروس وعِبر؛ منها:[10]