تُعرّف الرحمة لغةً على أنها الرِقّة، والمغفرة، والتَّعَطُّفُ،[1] ومن الجدير بالذكر أن الرحمة من أعظم الصفات، إذ إن الله -تعالى- ذكرها في العديد من آيات القرآن الكريم، فتارة وصف نفسه بالرحمة وتَسمّى بها، كما في قوله عز وجل: (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ* الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ)،[2] وقد بيّن ابن عباس -رضي الله عنه- أن الرحمن والرحيم اسمان رقيقان أحدهما أرق من الآخر، أي أكثر رحمة، وتارة أخرى وُصف بهذه الصفة العظيمة خيرة عباده، وصفوة خلقه، وهم الأنبياء والرسل، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، حيث جعل الله تعالى هذه الرحمة في قلب رسوله صلى الله عليه وسلم، مما جعله يلين للمؤمنين، ويعفو عنهم، ويرحمهم، ويتجاوز عن أخطائهم، مصداقاً لقوله تعالى: (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ).[3][4]
والمقصود في الآية الكريمة أن لين جانب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مع أصحابه -رضي الله عنهم- في حال مخالفتهم بعض أوامره كانت بسبب رحمة أودعها الله -تعالى- في قلبه، وقوله تعالى: (مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ ۚ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ)،[5][4] وتجدر الإشارة إلى أن الرحمة صفة لازمة لمحمد صلى الله عليه وسلم، وهي من أهم ميزاته التي عُرف بها، وقد بيّن الله -تعالى- أن سبب بعثته كانت رحمة الخلق، حيث قال: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ)،[6] وبسبب رحمته وعطفه وحنانه أسر قلوب من عرفوه، وقد رُوي في سيرته العطرة الكثير من المواقف التي تدل على رقة قلبه ورحمته.[7]
كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يعطف على الكبير والصغير، ويتفاعل مع المواقف التي تمر به وكله رحمة وشفقة، وفي بعض المواقف كان يبكي -عليه الصلاة والسلام- رحمة بالناس عند وفاتهم، أو خوفاً عليهم من عقاب الله تعالى، أو عند سماع آيات القرآن الكريم، فكان لتفاعله مع تلك المواقف الأثر الكبير في قلوب الصحابة -رضي الله عنهم- الذين حفظوها ونقلوها جيلاً بعد جيل، ويمكن بيان بعض تلك المواقف فيما يأتي.[8]
من المواقف التي أبكت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عتاب الله -تعالى- له بسبب فداء الأسرى يوم بدر، حيث نزل قوله تعالى: (مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَىٰ حَتَّىٰ يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ ۚ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ۗ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ)،[9] وعندما جاء عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- وجد النبي -عليه الصلاة والسلام- وأبو بكر الصديق -رضي الله عنه- يبكيان تحت الشجرة، فقال: (يا رسولَ اللهِ أخبِرْني مِن أيِّ شيءٍ تبكي أنتَ وصاحبُك، فإنْ وجَدْتُ بكاءً بكَيْتُ، وإنْ لم أجِدْ بكاءً تباكَيْتُ لبكائِكما)، فقال عليه الصلاة والسلام: (أبكي للَّذي عرَض عليَّ أصحابُك مِن أخذِهم الفداءَ)،[10][11] وقد فسّر الإمام القرطبي -رحمه الله- الآية الكريمة التي نزلت يوم بدر، وبيّن أنها نزلت عتاباً للنبي -عليه الصلاة والسلام- ولأصحابه؛ لأنهم أسَروا المشركين يوم بدر، وكان الأوْلى الإثخان فيهم.[12]
كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أكثر الناس عبادةً على الرغم من أن الله -تعالى- غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، وقد روت أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها- أن النبي -عليه الصلاة والسلام- قال لها في أحد الليالي: (يا عائشةُ ذَرِيني أتعبَّدِ اللَّيلةَ لربِّي)،[13] ثم قام -عليه الصلاة والسلام- فتطهّر ثم دخل في الصلاة، وأخذه البكاء حتى بل حجره، ثم لم يزل يبكي حتى بل لحيته الشريفة، ثم بكى ولم يزل يبكي حتى بل الأرض، فجاء بلال بن رباح -رضي الله عنه- يؤذنه بالصلاة، فلما رآه يبكي قال: (يا رسولَ اللهِ لِمَ تَبكي وقد غفَر اللهُ لك ما تقدَّم وما تأخَّر؟)، فقال عليه الصلاة السلام : (أفلا أكونُ عبدًا شكورًا لقد نزَلَتْ علَيَّ اللَّيلةَ آيةٌ، ويلٌ لِمَن قرَأها ولم يتفكَّرْ فيها (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ))،[13][8]
كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يعطف على أصحابه رضي الله عنهم، ويتفقد أحوالهم، ويبكي حزناً إن أصاب أحدهم مكروه، حيث روى ابن عمر -رضي الله عنه- أن سعد بن عبادة -رضي الله عنه- مرض في أحد الأيام، فأتاه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يتفقّده وبرفقته سعد بن أبي وقاص، وعبد الرحمن بن عوف، وعبد الله بن مسعود -رضي الله عنهم- جميعاً، ولما دخلوا عليه وجدوه في غاشية أهله، فقال عليه الصلاة والسلام: (قدْ قَضَى؟ قالوا: لا يا رَسولَ اللَّهِ، فَبَكَى النبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فَلَمَّا رَأَى القَوْمُ بُكَاءَ النبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بَكَوْا، فَقالَ: أَلَا تَسْمَعُونَ إنَّ اللَّهَ لا يُعَذِّبُ بدَمْعِ العَيْنِ، ولَا بحُزْنِ القَلْبِ، ولَكِنْ يُعَذِّبُ بهذا -وأَشَارَ إلى لِسَانِهِ-).[14][15]
وفي موقف آخر عندما وصل خبر وفاة عثمان بن مظعون -رضي الله عنه- لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- توجّه إلى بيته مسرعاً، وبكى عليه بكاءً كثيراً،[15] وبكى -عليه الصلاة والسلام- على شهداء مؤتة، مصداقاً لما رُوي عن أنس بن مالك -رضي الله عنه- أنه قال: (أنَّ النبيَّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: نَعَى جَعْفَرًا، وزَيْدًا قَبْلَ أنْ يَجِيءَ خَبَرُهُمْ وعَيْنَاهُ تَذْرِفَانِ)،[16] وبكى -عليه الصلاة والسلام- رقة ورحمة عندما توفي بعض أبنائه وبناته، كبكائه عندما توفي ابنه إبراهيم رضي الله عنه، حيث روى أنس بن مالك -رضي الله عنه- عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه قال يوم وفاة ابنه إبراهيم: (إنَّ العَيْنَ تَدْمَعُ، والقَلْبَ يَحْزَنُ، ولَا نَقُولُ إلَّا ما يَرْضَى رَبُّنَا، وإنَّا بفِرَاقِكَ يا إبْرَاهِيمُ لَمَحْزُونُونَ).[17][18]