-

من هو صاحب الحوت وما قصته

(اخر تعديل 2024-09-09 11:28:33 )

قصص القرآن الكريم

إنّ فنّ التاريخ غزير الفوائد، وغايته شريفة؛ حيث يجعلنا نقف على أحوال الأمم الماضية وأخبارهم، وعلى سِيَر الأنبياء مع أقوامهم، وعلى دور الملوك والرؤساء في بلادهم حتى نعتبر بآثارهم وأحوالهم،[1] ويعتبر التاريخ من أهم مصادر المعرفة، فقد استخدم القرآن الكريم فنّ القصة في سرد وقائع الأمم السابقة؛ فالقصص القرآني يمثّل خلاصة التجارب الواقعية التي عاشتها البشريّة، وما نتج عنها من الصراع بين الخير والشر، والإيمان والكفر، والحق والباطل.[2]

وقد ذكر الله في كتابه العزيز كثيراً من أخبار الأمم والملوك، واعتنى عنايةً فائقةً بقصص الأنبياء، وقصّ على رسوله قصص السابقين وأقوامهم مدعاةً إلى التفكّر، والاعتبار، والتأسّي، وشدّ العزيمة، والصبر، وتثبيت الفؤاد، فقد قال تعالى: (وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيكَ مِن أَنباءِ الرُّسُلِ ما نُثَبِّتُ بِهِ فُؤادَكَ وَجاءَكَ في هـذِهِ الحَقُّ وَمَوعِظَةٌ وَذِكرى لِلمُؤمِنينَ).[3] ومن هذه القصص قصة صاحب الحوت، وفيما يأتي تعريف بصاحب الحوت وبيانٌ لقصّته.[4]

صاحب الحوت

صاحب الحوت هو النّبي يونس بن متّى عليه السلام، ومتّى هو أبوه كما صرّح البخاريّ في صحيحه، وكان من قرية نينوى في الموصل شمال العراق، وقد أوحى الله إليه كما أوحى لغيره من الرّسل، قال تعالى: (وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ)،[5] وجعله من الصالحين الأخيار الذين فضّلهم على العالمين، حيث قال الله تعالى: (وَإِسماعيلَ وَاليَسَعَ وَيونُسَ وَلوطًا وَكُلًّا فَضَّلنا عَلَى العالَمينَ)،[6] وقد ذُكر يونس -عليه السلام- باسمه الصّريح أربع مرّاتٍ في القرآن الكريم، كما إنّه توجد سورةً كاملةً باسمه هي سورة يونس.[7]

وتأتي قصة يونس مقرونةً بقصة أيوب عليه السلام، ومؤيّدةً لها في إثبات قدرة الله ولطفه في عباده وإغاثته لهم؛ حيث عرض القرآن الكريم سبب خلافه مع قومه ومغادرته لهم، وتعرّضه للابتلاء والامتحان، ثمّ إنجاء الله له، وعودته إلى قومه الذين آمنوا في غيابه، وقد سُمّي يونس -عليه السلام- بصاحب الحوت، كما سُمي بذي النّون، والنّون يُقصد به الحوت الذي ابتلعه وعاش في بطنه فترةًً وبقي حيّاً بقدرة الله، وكأنّ الحوت أصبح صاحباً لسيدنا يونس كما اعتبره القرآن الكريم، فحماه بأمر الله.[7]

وبعث الله نبيّه يونس إلى قومه الذين كانوا يعبدون الأصنام، فنهاهم عن عبادتها، ودعاهم إلى توحيد الله عزّ وجل، وبذل لهم النُّصح في تبليغ رسالة ربّه لكنهم قابلوه بالإعراض، والجفاء، والصدّ، فلمّا أحسّ يونس منهم الكفر بعد ذلك حذّرهم من سخط الله وغضبه وهدّدهم بحلول عذاب الله عليهم بعد ثلاثة أيام إن لم يؤمنوا، ثمّ خرج من بين أظهرهم غاضباً بعدما ظنّ أنّه أدّى ما عليه من تبليغ الرسالةن فخرج من أرض قومه متّجهاً نحو البحر، ويبدو من النصوص الواردة في قصة يونس أنّ الله لم يأمره بهذا الخروج؛ حيث وصفه الله بالآبِق، والآبق هو العبد الهارب، قال تعالى: (إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ)،[8] وكان على سيدنا يونس أن يسلّم لأمر الله، فليس لنبيٍ أن يترك بلده وقريته ويخرج أو يهاجر دون إذنٍ من الله، لذلك نهى الله رسوله -صلى الله عليه وسلم- أن يكون كصاحب الحوت في حِدّة وقلّة صبره، قال تعالى: (فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تَكُن كَصَاحِبِ الْحُوتِ).[9][10][11]

ولمّا رأى قومه أمارات العذاب، وأيقنوا نزوله بهم؛ تابوا إلى الله، وندموا على تكذيبهم لرسولهم، وفرّقوا بين كلّ حيوانٍ وولده، ثمّ خرجوا يدعون الله، ويتوسّلون إليه، ويتضرّعون له، فكشف الله بحوله ورحمته عنهم العذاب الذي كان قد أُحيط بهم، وقد أخبرنا الله أنّ قوم يونس نفعهم إيمانهم بعد نزول العذاب عليهم، ورفعه عنهم بعد إحاطته بهم، قال تعالى: (فَلَولا كانَت قَريَةٌ آمَنَت فَنَفَعَها إيمانُها إِلّا قَومَ يونُسَ لَمّا آمَنوا كَشَفنا عَنهُم عَذابَ الخِزيِ فِي الحَياةِ الدُّنيا وَمَتَّعناهُم إِلى حينٍ).[12][13]

يونس والحوت

لمّا خرج يونس -عليه السلام- غاضباً بسب قومه بسبب رفضهم لدعوته، سار حتى ركب سفينةً في البحر، فاضطربت براكبيها حتى كادوا يغرقون، وكان لا بدّ من إلقاء راكبٍ من ركّابها لينجو الآخرون، وما كان من حلٍّ إلا أن يقترع ركّاب السفينة، فمن خرجت قرعته أُلقي في البحر، فلما اقترعوا وقعت القرعة على يونس عليه السلام، ولقد كانوا يعرفونه فأبوا أن يلقوه في الماء، فأعادوا القرعة ثانيةً وثالثةً، فخرج سهمه أيضاً، عندها لم يجدوا بُدّاً من إلقائه في البحر، وبعث الله حوتاً فالتقمه، وطاف به البحار كلها، وأوحى الله إليه ألا يُهلك يونس عليه السلام؛ فلا يأكل لحمه ولا ينهش عظمه، وأحاطت به ظلمات ثلاث؛ ظلمة البحر، وظلمة الحوت، وظلمة الليل، ولبث في بطنه مدّة الله أعلم بها.[13]

وقد سمع نبي الله يونس تسبيح الحصى ودوابّ البحر وهو في بطن الحوت، فأدرك ما استحقّ عليه اللوم، فأقبل على الله وأثنى عليه، فذكره، وسبّحه، وتضرّع إليه بأن يفرّج كربه، وألهمه الله الكلمات التي تبدّد الظلمات، وتُزيل الكربات، فنادى ربّه مسبّحاً ونادماً على ما كان منه، قال تعالى: (وَذَا النُّونِ إِذ ذَّهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَن لَّا إِلَـهَ إِلَّا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ*فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنجِي الْمُؤْمِنِينَ)،[14] فقذفه الحوت بأمرٍ من الله إلى شاطئ البحر، وهو سقيم الجسد من شدة ما أصابه،[11] وأنبت الله عليه شجرةً من يقطينٍ يستظل بها ويأكل منها، وذكر العلماء في حكمة إنبات اليقطين عليه أنّها شجرةٌ فيها نفعٌ كثير، ومقوّية للبدن، ويؤكل ثمره بكل أشكاله نيّئاً ومطبوخاً، وبقشره وببزره أيضاً، ولمّا تعافى يونس -عليه السلام- أمره الله بالعودة إلى قومه الذين غادرهم؛ فوجدهم مؤمنين بالله منتظرين عودته ليتّبعوه، فمكث معهم يُعلّمهم ويرشدهم.[10]

المراجع

  1. ↑ ابن خلدون، مقدمة ابن خلدون، صفحة 13، جزء 1. بتصرّف.
  2. ↑ التهامي نقرة، سيكولوجية القصة في القرأن، تونس: الشركة التونسية للتوزيع، صفحة 271. بتصرّف.
  3. ↑ سورة هود، آية: 120.
  4. ↑ إبراهيم العلي، الأحاديث الصحيحة من أخبار وقصص الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، دمشق: دار القلم، صفحة 8. بتصرّف.
  5. ↑ سورة الصافات، آية: 139.
  6. ↑ سورة الأنعام، آية: 86.
  7. ^ أ ب د. صلاح الخالدي، القصص القرآني عرض وقائع وتحليل أحداث، دمشق: دار القلم، صفحة 33-40، جزء 4. بتصرّف.
  8. ↑ سورة الصافات، آية: 140.
  9. ↑ سورة القلم، آية: 48.
  10. ^ أ ب عبد القادر بن شيبة، قصص الأنبياء القصص الحق ، الرياض: مكتبة المعارف، صفحة 202-204. بتصرّف.
  11. ^ أ ب عمر الأشقر، صحيح القصص النبوي ، الأردن: دار النفائس، صفحة 124-126. بتصرّف.
  12. ↑ سورة يونس، آية: 98.
  13. ^ أ ب ابن كثير، قصص الأنبياء، القاهرة: دار التأليف، صفحة 387-391، جزء 1. بتصرّف.
  14. ↑ سورة الأنبياء، آية: 87-88.