تفسير بئس الاسم الفسوق بعد الإيمان

تفسير بئس الاسم الفسوق بعد الإيمان

القرآن الكريم

إنّ كلام الله سبحانه وتعالى المتمثّل بالقرآن الكريم، إنّما هو كلامٌ مُعجِزٌ لم يأتِ عبثاً، بل جاء مقروناً بالكثير من الشّواهد والدّلائل والعِبَر، فهو المصدر الأوّل للتّشريع الإسلاميّ، وبعده جاءت السُّنّة النبويّة؛ لتفصيل مجمَله وبيان متشابهه، وقد كان القرآن الكريم في بداية الأمر واضحاً سهل الفهم على من يقرؤه؛ لأنّه أُنزِل على أمّةٍ فصيحةٍ، تُتقن اللّغة العربيّة، وتعي جيّداً مدلولاتها ومكنوناتها، إلا أنّه وبعد توسُّع الدّولة الإسلاميّة، ودخول كثيرٍ من الأعاجم الإسلامَ، وتزعزع الألسنة العربيّة، ظهرت حاجة مُلحّةٌ لتفسير آيات كتاب الله، وبيان المقصود منها، ومن هنا نشأ علم التّفسير وازدهر، وبدأ التّأليف فيه وتدوينه وفقَ قواعد وضوابط يجب الأخذ بها، أهمُّها: إتقان اللّغة العربيّة، ومعرفة أسباب نزول الآيات والسُّوَر، والعلم الوافي بالعلوم الخاصّة بالعلوم الشرعيّة كافّةً، من: فقهٍ، وعلم حديثٍ، وأصول فقهٍ، وغير ذلك.

معنى علم التّفسير

التّفسير لُغةً

التّفسير لُغةً: مصدر فسَّرَ، ومعناه الإيضاح والتّبيين، قال تعالى: (وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْناكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً)،[1] أي بياناً وتفصيلاً، والفَسْر: البيانُ وكشف المُغطَّى، ويُطلَق التّفسير أيضاً على التّعرية للانطلاق، فيُقال: فَسَّرتُ الفرس: عَرَّيتُه لينطلق، وهو عائدٌ لمعنى الكشف، فكأنّه كشف ظهره لهذا الذي يريده منه من الجري.[2] والتّفسير هو: إخراج الشيء من مقام الخفاء إلى مقام التّجلّي.[3]

التّفسير اصطلاحاً

التّفسير في الاصطلاح له العديد من التّعريفات؛ فعلم التّفسير: (هو علمٌ يبحث في كيفيّة نُطق ألفاظ القرآن، ومدلولاتها، وأحكامها الإفراديّة والتركيبيّة، ومعانيها التي تحمل عليها حالة التّركيب، وتتمّات ذلك). وقيل هو: (علمُ فهمِ كتاب الله المُنزَل على نبيّه محمّدٍ صلّى الله عليه وسلّم، وبيان معانيه، واستخراج أحكامه وحكمه، واستمداد ذلك من علم اللّغة، والنّحو، والتّصريف، وعلم البيان، وأصول الفقه، والقراءات، ويحتاج لمعرفة أسباب النّزول، والناسخ والمنسوخ).[2]

قال السّيوطيّ في التّفسير: (هو علمُ نزولِ الآيات، وشؤونها، وقصصها، والأسباب النّازلة فيها، ثمّ ترتيب مَكيِِّها ومدنيِِّها، ومُحكَمِها ومتشابهها، وناسخها ومنسوخها، وخاصّها وعامّها، ومُطلَقها ومُقيّدها، ومُجملها ومُفسّرها، وحلالها وحرامها، ووعدها ووعيدها، وأمرها ونهيها، وعِبَرها وأمثالها).[4]

نظرةٌ عامّةٌ في سورة الحجرات

سورة الحجرات هي سورةٌ مدنيّةٌ، نزلت في المدينة بإجماع الصّحابة، بدأت بقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا)،[5]، وعدد آياتها ثماني عشرة آيةً، وترتيبها بين سُوَر المصحف التّاسعة والأربعون على التّوالي، وتُسمّى بسورة الآداب.[6] وقد نزلت سورة الحجرات على عدّة مراحل؛ وذلك حسب الحوادث التي حصلت، والتي جاءت السّورة لبيانها وإيرادها؛ حيث كان مضمون السّورة عامّةً يدور حول ضرورة التأدُّب في الحوار؛ خصوصاً مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، واجتناب التّنابُز بالألقاب.[7]

انفردت سورة الحجرات بالعديد من الآداب الجليلة التي أدَّب الله سبحانه وتعالى بها عباده الصّالحين؛ في معاملتهم مع رسوله محمّدٍ صلّى الله عليه وسلّم من توقيرٍ وتبجيلٍ. قال بعض العلماء: (كانت العرب في جفاءٍ وسوء أدبٍ عند خطابهم مع النبيّ صلّى الله عليه وسلّم)؛ فسورة الحجرات فيها الأمر بمكارم الأخلاق، ورعاية الآداب، ومن هنا جاء سبب تسميتها بسورة الآداب،[6] وفيما يأتي بيانٌ لسبب نزول الآية.

سبب نزول آية (بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ)

قيل إنّ هذه الآية نزلت في الصحابيّ الجليل ثابت بن قيس رضي الله عنه، حين سأل شخصاً: من أنت؟ فقال: أنا ابن فلان، فقال ثابت: أنت ابن فُلانة ـ يُريد تعييره بأمّه- فخجل الرّجل؛ لأنّه كان يُعيَّر بها في الجاهليّة.[8] وعن ابن عبّاس رضي الله عنه قال: إنّها نزلت في صفيّة بنت حيي بن أخطب؛ حيث رُوِي أنّه: (بلَغ صفيَّةَ أنَّ حَفصةَ قالت لها: ابنةُ يهوديٍّ، فدخَل عليها النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وهي تبكي، فقال صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: وما يُبكيكِ؟ قالت: قالت لي حَفصةُ: إنِّي بنتُ يهوديٍّ فقال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: إنَّكِ لَابنة نَبيٍّ، وإنَّ عمَّكِ لَنَبيٌّ، وإنَّكِ لَتحتَ نَبيٍّ، فبِمَ تفخَرُ عليكِ؟ ثمَّ قال صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: اتَّقِ اللهَ يا حَفصةُ).[9]

تفسير آية (بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ)

قال تعالى مُخاطِباً المؤمنين خاصّةً: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِّن قَوْمٍ عَسَىٰ أَن يَكُونُوا خَيْرًا مِّنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِّن نِّسَاءٍ عَسَىٰ أَن يَكُنَّ خَيْرًا مِّنْهُنَّ ۖ وَلَا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ ۖ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ ۚ وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ)،[10] هذه الآية عظيمةٌ في بابها وموضوعها، وقد مرَّ سابقاً أنّ سورة الحجرات سُمِّيت بسورة الآداب، وذُكر سببُ تسميتها بذلك، وهذه التّسمية تتّضح جليّاً في هذه الآية الكريمة؛ فهي مغمورةٌ بالآداب المُحمّديّة، والخِصال الحسنة التي دعا إليها الإسلام، وما زال يدعو، وجاء في تفسير هذه الآية ما يأتي:[11]

(عَسَىٰ أَن يَكُونُوا خَيْرًا مِّنْهُمْ)

ينهى الله سُبحانه وتعالى المؤمنين عن أن يستهزئ بعضهم ببعضٍ، وعلّل هذا النّهي بقوله: (عَسَىٰ أَن يَكُونُوا خَيْرًا مِّنْهُمْ)؛[10] أي: أن يكون المسخور بهم عند الله خيراً من السّاخرين بهم، وحيث إنّ لفظ القوم مختصٌّ بالرّجال؛ لأنهم القُوَّمُ على النّساء، فقد أفرد الله النساء بالذِّكْر، فقال: (وَلَا نِسَاءٌ مِّن نِّسَاءٍ)؛[10] أي: ولا تسخر نساءٌ من نساءٍ عسى أن تكون المسخورات بهنّ خيراً منهنّ؛ يعني خيراً من السّاخرات منهنّ، وقيل: أفردَ النّساء بالذّكر؛ لأنّ السُّخرية منهنّ أكثر.

(وَلَا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ)

اللَّمز: العيب، قال ابن جرير: (اللّمز باليد والعين واللسان والإشارة، والهمز لا يكون إلّا باللسان، ومعنى: (وَلَا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ)؛[10] أي لا يلمز بعضكم بعضاً). قال مجاهد وقتادة وسعيد بن جبير: (لا يطعن بعضكم على بعض)، وقال الضحّاك: (لا يلعن بعضكم بعضاً).

(وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ)

التّنابُز: بمعنى التّفاعل، وهو مأخوذٌ من النّبْز بالتّسكين، والنَّبَز: اللّقَب، والجمع أنباز، والألقاب جمع لقب، وهو اسمٌ غير الذي سُمِّي به الإنسان، والمُراد هنا لقب السّوء، والتّنابز بالألقاب أي أن يلقّب بعضُهم بعضاً، قال الواحديّ: (قال المفسّرون: هو أن يقول لأخيه المسلم: يا فاسق، يا منافق، أو يقول لمن أسلم: يا يهوديّ، يا نصرانيّ). وقال عطاء: (هو كلّ شيء أخرجت به أخاك من الإسلام، كقولك: يا كلب، يا حمار، يا خنزير). قال الحسن ومجاهد: (كان الرجل يُعيَّر بكفره، فيُقال له: يا يهوديّ يا نصرانيّ)؛ فنزلت هذه الآية، وإلى ذلك ذهب قتادة وأبو العالية وعكرمة.

(بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ)

(بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ)؛[10] أي: بئس الاسم الذي يُدعى به الرّجل، ويُذكّر بالفسق والكفر والمعصية بعد إيمانه، والاسم هنا بمعنى الذِّكر. قال ابن زيد: (أي بئس أن يُسمّى الرّجل كافراً أو زانياً بعد إسلامه وتوبته). وقيل: إنّ مَن فعل ما نُهِي عنه من السّخرية بالمسلمين، واللّمز، والنّبذ فهو فاسق. قال القرطبيّ: (يُستثنى من ذلك من غلب عليه الاستعمال في العادة، كالأعرج، والأعمى، والأعور، وغير ذلك، في حال لم يكن له سببٌ يجد في نفسه منه عليه، فذلك جائز عند الأئمّة، واتّفق على قول ذلك أهلُ اللّغة).

(وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ)

من لم يتُبْ عمّا نهى الله عنه، فأولئك ظالمون؛ لارتكابهم ما نهى الله جلّ وعلا عنه، ولأنّهم امتنعوا عن التّوبة، فظلموا من لقّبوه بتلك الألقاب، وظلموا أنفسَهم بما جلبوه عليها من الإثم.

المراجع

  1. ↑ سورة الفرقان، آية: 33.
  2. ^ أ ب أبو محمد عبد الحق بن غالب بن عبد الرحمن بن تمام بن عطية الأندلسي المحاربي (1422)، المحرر الوجير في تفسير الكتاب العزيز (الطبعة الأولى)، بيروت: دار الكتب العلمية، صفحة 3-4.
  3. ↑ جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي بن محمد الجوزي (1422)، زاد المسير في علم التّفسير (الطبعة الأولى)، بيروت: دار الكتب العلمية، صفحة 3-4.
  4. ↑ عبد الرحمن بن أبي بكر، جلال الدين السيوطي (1974)، الإتقان في علوم القرآن، مصر: الهيئة المصرية العامة للكتاب، صفحة 174، جزء 2.
  5. ↑ سورة الحجرات، آية: 1.
  6. ^ أ ب محمد أحمد إسماعيل المقدم، تفسير القرآن الكريم]، صفحة 2، جزء 133. بتصرّف.
  7. ↑ سعيد حوى (1424)، الأساس في التّفسير (الطبعة السادسة)، القاهرة - مصر: دار السلام، صفحة 5396، جزء 9. بتصرّف.
  8. ↑ محمد بن جرير بن يزيد بن كثير بن غالب الآملي، أبو جعفر الطبري، جامع البيان في تأويل القرآن (تفسير الطبري)، بيروت: دار المعارف، صفحة 300-303، جزء 22. بتصرّف.
  9. ↑ رواه ابن حبان، في صحيح ابن حبان، عن أنس بن مالك، الصفحة أو الرقم: 7211، صحيح.
  10. ^ أ ب ت ث ج سورة الحجرات، آية: 11.
  11. ↑ محمد بن علي بن محمد بن عبد الله الشوكاني اليمني (1414)، فتح القدير (الطبعة الأولى)، دمشق: دار ابن كثير، صفحة 75-76، جزء 5. بتصرّف.