سبب نزول سورة المجادلة

سبب نزول سورة المجادلة

علم أسباب النزول

يتّفق أهل التفسير على أنّ سور وآيات القرآن الكريم تنقسم من حيث سبب النزول وعدمه إلى قسمين؛ فالأول: ما نزل من القرآن بدون سببٍ خاصٍّ لنزوله، وهذا القسم كثيرٌ في القرآن الكريم، والقسم الثاني: ما ارتبط نزوله بحدثٍ أو سببٍ معيّنٍ، وعلم أسباب النّزول من أهم العلوم التي تندرج تحت علوم القرآن الكريم، وقد اهتمّ بها كثيرٌ من المصنفين من أهل العلم، مثل: الواحدي، وابن حجر، والسيوطي، وغيرهم، ويقصد بسبب النزول: هو الأمر الذي بسببه نزلت الآية أو الآيات تتحدّث عنه، أو تبيّن موقف الشّرع منه بعد وقوعه، ويشمل هذا ما كان تعقيباً على حادثٍ قد وقع، مثل الآيات التي أعقبت حادثة الإفك بحقّ السيدة عائشة -رضي الله عنها-، أو سؤالاً سُئل عنه النبي -صلّى الله عليه وسلّم-، وسواءً كان هذا السؤال متعلّقٌ بأمرٍ مضى، مثل السؤال عن قصة ذي القرنين، أو سؤالٌ متصلٌ بحاضرٍ، مثل السؤال عن حقيقة الرّوح، أو كان سؤالاً متصلاً بأمرٍ في المستقبل، مثل السؤال عن تحديد وقت قيام الساعة، ولا تُعدّ الآيات التي نزلت ابتداءً دون سؤالٍ من آيات أسباب النزول، مثل الآيات التي تتحدّث عن قصص الأنبياء، أو عن بعض الحوادث الماضية، أو تتحدث عن اليوم الآخر وما فيه من نعيمٍ وعذابٍ؛ فإنّ كلّ هذه القصص والأحداث ليس بالضرورة أنْ يكون لكلٍّ منها سبب نزولٍ خاصٍ بها، وبناء على هذا الفهم فإنّ أهل العلم قرّروا أنّه لا طريقٌ لمعرفة أسباب النزول إلّا بالنقل الصحيح، حيث لا مجال للرأي والعقل فيه، ولا أثر يعوّل عليه إلّا من باب تمحيص الرّوايات وترجيح الأقوال، وهذا ما أشار إليه الإمام الواحدي في كتابه: أسباب النزول، فأكدّ على حُرمة القول في أسباب نزول الآيات إلّا بالرواية والسماع من أولئك الذين عايشوا التنزيل، وفقهوا أسباب النّزول، ومعرفة الصحابة -رضي الله عنهم- لأسباب النزول أمر مُتحصّلٌ بالقرائن المحيطة بالمسألة،[1] وسورة المجادلة من السّور التي احتوتْ آياتٍ مباركةٍ بحث أهل التفسير في أسباب نزولها، وهذا المقال يقف على هذا الموضوع بحثاً وتمحيصاً وكشفاً، لما توّصل إليه أهل العلم من الرّوايات الصحيحة عنها.

سبب نزول سورة المجادلة

نزلت الآيات الكريمة في مطلع سورة المجادلة في أمر خولة بنت ثعلبة وزوجها أوس بن الصامت -رضي الله عنهما-، حيث جاءتْ زوجته تشتكي للنبي -صلّى الله عليه وسلّم- من زوجها أنّه يظاهرها بقوله: أنت عليّ كظهر أمي، وكان أوس رجل به لمَم؛ فإذا حضر لممه ظاهر منها، فأتت النبي الكريم تستفتيه في ذلك، وهي تشكي أمرها إلى الله -تعالى-، فأنزل الله على إثرها: (قَدْ سَمِعَ)، وقد جاء في الرّواية عن عائشة -رضي الله عنها- في سبب نزول مطلع سورة المجادلة قولها: (الحمدُ للهِ الذي وسِعَ سمعُه الأصواتَ، لقَد جاءتِ المُجادلةُ إلى رسولِ اللَّهِ -صلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ- تُكَلِّمُه في جانبِ البيتِ ما أسمعُ ما تَقولُ فأنزلَ اللَّهُ -عزَّ وجلَّ-: قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ)،[2][3] وفي روايةٍ أخرى تنقل السيدة عائشة ما سمعته من خولة بنت ثعلبة تقول لرسول الله -صلّى الله عليه وسلّم-: (يا رسولَ اللهِ أكل شبابي، ونثرتُ له بطني، حتى إذا كبرتْ سِنِّي، وانقطع له ولدي، ظاهَر مِنِّي، اللهمَّ إني أشكو إليك، قالت عائشةُ: فما برِحتْ حتى نزل جبريلُ -عليه السلامُ- بهؤلاء الآياتِ: قَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا).[4][5]

وجاء عند الألوسي في روح المعاني أنّ أوساًَ زوج خولة كان رجلاً قد شاخ، وكبر سنّه، وضاق خُلُقه، فدخل عليها ذات يوم فغضب منها لأمرٍ ما؛ فقال: أنت عليّ كظهر أمي، وكانت العرب في الجاهلية تُحرّم على الرّجل زوجته إذا ظاهر منها، وكان هذا الذي صدر من أوس أول ظهارٍ في الإسلام، فلم يُعرف أنّ أحداً ظاهر امرأته قبله من المسلمين، فبعد أنْ ندم على قوله أراد معاشرتها؛ فامتنعت عنه حتى يحكم الله ورسوله لهما بالأمر، فأتت النبي -صلّى الله عليه وسلّم- بالذي حصل بينهما.[6]

حكم الظهار وكفارته

الآيات الكريمة التي نزلت عقب حادثة شكوى خولة بنت ثعلبة أمر ظهار زوجها لها هي قول الله -عزّ وجلّ-: (قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحاوُرَكُما إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ*الَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسائِهِمْ ما هُنَّ أُمَّهاتِهِمْ إِنْ أُمَّهاتُهُمْ إِلاَّ اللاَّئِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَراً مِنَ الْقَوْلِ وَزُوراً وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ*وَالَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْ نِسائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِما قالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ذلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ*فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً ذلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ أَلِيمٌ)،[7] حيث يجد القارئ أنّ سياق الثانية يكشف عن أنّ الظهار ممقوتٌ شرعاً، وقد وصفه المولى -عزّ وجلّ- بالقول المُنكر والزور، فالأم هي التي أنجبت، والزوجة هي التي أحلّ الله للرجل معاشرتها؛ فلا يصحّ شرعاً، ولا يُقبل عقلاً أن يجعل المرء زوجته محرّمةً عليه كأمّه حرمةً مؤبدةً.[8]

ولكفّارة الظهار ثلاثة مراتبٍ واجبة باتفاق أهل العلم، وهي على الترتيب الآتي: الإعتاق والصيام والإطعام، وذلك حسب ما نصّت عليه الآيات الكريمة السابقة، وينتهي حكم الظهار بعد أن يكون قد وجب في حقّ العبد بعدّة أمورٍ، فإما أنْ يؤدّي الكفارة، ولا يحلّ له أنْ يرجعها إلى عصمته، أو أنْ يباشر جماعها ما لم يؤدّ ما عليه من كفارةٍ، أو أنْ يأتي الموت أحد الزوجين، إذ لا يتصوّر بقاء الحكم بانتفاء وجود المتعلّق به، وهو هنا أحد الزوجين، أو تنتهي مدّته إنْ كان مؤقتاً ومحدّداَ بزمنٍ.[9]

المراجع

  1. ↑ "المدخل لدراسة القرآن الكريم"، www.al-eman.com، اطّلع عليه بتاريخ 2-12-2018. بتصرّف.
  2. ↑ سورة المجادلة، آية: 1.
  3. ↑ رواه ابن عساكر، في معجم الشيوخ، عن عائشة أم المؤمنين، الصفحة أو الرقم: 1/163، صحيح.
  4. ↑ رواه الألباني، في إرواء الغليل، عن عائشة أم المؤمنين، الصفحة أو الرقم: 7/175، إسناده صحيح.
  5. ↑ أبو الفداء إسماعيل بن عمر بن كثير (1419 هـ)، تفسير القرآن العظيم (الطبعة الأولى)، بيروت: دار الكتب العلمية، صفحة 66-67، جزء 8. بتصرّف.
  6. ↑ شهاب الدين محمود بن عبد الله الألوسي (1415)، روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني (الطبعة الأولى)، بيروت: دار الكتب العلمية، صفحة 198، جزء 14. بتصرّف.
  7. ↑ سورة المجادلة، آية: 1-4.
  8. ↑ محمد محمود الحجازي (1413هـ)، التفسير الواضح (الطبعة العاشرة)، بيروت: دار الجيل الجديد، صفحة 637-640، جزء 3. بتصرّف.
  9. ↑ وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية ( 1404 - 1427 هـ)، الموسوعة الفقهية الكويتية (الطبعة الأولى)، مصر: دار الصفوة، صفحة 208-210، جزء 29. بتصرّف.