كرّم الله -تعالى- الإنسان، وجعل المخلوقات مسخّرةً له، ثمّ علّمه كيف يستخدمها في تلبية حاجاته من طعامٍ، ونحوه، وعادةً ما يؤثّر الطعام الذي يتغذّى عليه الإنسان في طبائعه، وهو من أقوى أسباب التغيّر الحاصل في بدن الإنسان، وخُلقه، ولذا فقد أمر الله تعالى المسلمين بألّا يأكلوا إلّا الطيّب من الطعام، فقال: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ)،[1] ولذلك أيضاً حرّم الإسلام أكل الخبائث، فهي تُفسد الطباع، وغالباً ما تتغذّى على الخبائث، ومن اجتنب الحرام في الدنيا كان ذلك سبباً لكمال لذّته ومتعته في الجنة، لأنّ أكمل الناس لذةً في الجنة من صان نفسه عن الحرام في الدنيا، فلا يلبس الحرير في الجنّة من لبسه في الدنيا بالنسبة للرجال، ولا يشرب الخمر في الجنة من شربه في الدنيا، فليست لذّة من استوفى اللذّات المحرّمة في الدنيا، كلذّة من تركها لله عزّ وجلّ، والأصل في جميع المأكولات والمشروبات في الإسلام أنّها مباحةٌ، ولا يجوز تحريم شيءٍ منها إلّا بدليلٍ دلّ على ذلك، ودليل أصل الإباحة في الطعام قول الله تعالى: (قُل لَّا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ).[2][3]
وللطعام المباح في الإسلام ضوابطٌ محدّدةٌ، فمنها: أولاً ألّا يكون ضاراً، وهذا منسجمٌ مع الأمر العام للمسلم باجتناب الضرر، فقد قال الرسول -صلّى الله عليه وسلّم- مُشيراً إلى ذلك: (لا ضَرَرَ ولا ضِرَار)،[4] وقد اتفق العلماء على حُرمة كلّ ما فيه ضررٌ من مأكلٍ، أو مشربٍ، ويدخل في ذلك الدخان، والطعام الفاسد، والسم، وكلّ ما حكم الطب بحصول ضررٍ من تناوله، ومن الضوابط أيضاً؛ عدم نجاسة وخبث الطعام، وقد أكدّ العلماء على أنّ كلّ ما حكم عليه بالنجاسة، أو الاستخباث من الطعام فأكله حرامٌ، ويدخل في ذلك البول، والعذرة، والحشرات، كالخنافس، ونحوها، والضابط الثالث هو عدم التحريم، فكلّ طعامٍ نصّ الشرع على تحريمه فلا يجوز أكله، ويمكن الاستدلال على التحريم بوجهٍ من ثلاثة وجوهٍ، إمّا بالنصّ على تحريمه، كما جاء في تحريم الدم، وإمّا بالنهي عنه؛ لأنّ النهي يقتضي التحريم، كنهي الرسول -صلّى الله عليه وسلّم- عن أكل كلّ ذي نابٍ من السباع مثلاً، وإمّا بوصف الشارع له بالخبث، أو الفسق، ومثال ذلك الخمر.[3]
أمر الله -تعالى- الإنسان بكثيرٍ من الأحكام الشرعية، والأصل في المسلم أن يطيع الله عزّ وجلّ، ويُجيبه إلى ما أمر به، فيفعله، وينتهي عمّا نهاه عنه كذلك، سواءً ظهرت له الحكمة من تلك الأوامر والتشريعات، أم لم تظهر، فليس للمسلم أن يرفض أمر الله، أو يتوقّف في تنفيذه إلى أن تظهر له الحكمة منه، قال الله تعالى: (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً)،[5] ولحم الخنزير فرعٌ من ذلك، فقد حرّمه الله -عزّ وجلّ- بنصّ القرآن الكريم، فلا يُباح لمسلمٍ أن يأكل منه شيئاً أبداً إلّا في حالة الضرورة القصوى، كخشية الإنسان على نفسه الهلاك من الجوع، ولم يجد أمامه طعاماً سواه، فيجوز له حينها أن يدفع عن نفسه تلك الضرورة الملحّة بالأكل منه، وفقاً للقاعدة الفقهية التي تنصّ على أنّ الضرورات تُبيح المحظورات، ولم يرد في نصوص الشريعة الإسلامية ما يعلّل تحريم لحم الخنزير على المسلم، سوا وصفه بأنّه رجسٌ، والرجس صفةٌ تطلق على كلّ أمرٍ مستقبحٍ في الإسلام وفي الفطر السليمة.[6]
وقد ورد في القرآن الكريم أيضاً تعليلٌ عامٌ لكلّ ما حرّمه الله -عزّ وجلّ- من مطعمٍ، ومشربٍ، وهو اتصافها جميعاً بالخبث، فكلّها من الخبائث، كما جاء في القرآن الكريم، ويُراد بالخبائث؛ كلّ ما فيه ضررٌ على الإنسان في صحته، أو ماله، أو خُلقه، وكلّ ما له عواقبٌ وخيمةٌ على الإنسان من أي جانبٍ كان، وقد أثبتت الدراسات الحديثة أنّ الخنزير من بين كلّ الحيوانات الأخرى يعدّ مستودعاً للجراثيم الضارة بجسم الإنسان، ففيه الأمراض الطفيلية، والأمراض البكتيرية، والأمراض الفيروسية، والأمراض الجرثومية، كما دلّت الاكتشافات العلمية الحديثة أيضاً على تولّد دودةٌ خطيرةٌ من لحم الخنزير تنشبّ في أمعاء الإنسان حين يأكل من لحم الخنزير، ولا تقبل العلاج بالأدوية الطاردة لديدان الأمعاء، بل تصل إلى عضلات الإنسان بصورةٍ مستحكمةٍ، عجز الطب إلى اليوم عن تخليص الإنسان منها بعد إصابته بها، فيظهر من ذلك أنّ لله -تعالى- حِكمٌ جليلةٌ في تحريم لحم الخنزير، تتمثّل في الحفاظ على إحدى الضروريات الخمسة، وهي حفظ النفس.[6][7]
للطعام جملةٌ من الآداب التي بنبغي للمسلم أن يتحلّى بها، وفيما يأتي بيان بعضٍ منها:[8]