جعل الله -تعالى- البيت الحرام مثابةً للنّاس وأمناً، وقد شرّفه الله وعظّمه إذ نسبه إلى نفسه؛ فقال الله عزّ وجلّ: (فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَـذَا الْبَيْتِ)،[1] ثمّ إنّه -سبحانه- أودع في بيته الحرام من الخصائص ما يجعله محطّ أنظار المسلمين من كلّ بقاع الأرض؛ فهو قبلة المسلمين في صلاتهم، ومقصدهم في الحجّ والعمرة، حيث لا يستقيم حجّهم، ولا تصحّ عمرتهم إلّا بالطّواف فيه حول الكعبة المشرفة، ومن مظاهر كرامة هذا المكان أنّ الذي يقصده حاجّاً أو معتمراً يتوجّب عليه الإحرام من أماكنٍ محدّدةٍ شرعاً، لا يصحّ تجاوزها إلّا بالإحرام، وعقد النّية عندها بقصد العبادة، وهذه الأماكن تسمّى المواقيت المكانية، وهذا المقال يتناول بالبحث مقيات أهل المدينة المنورة، ومن جاء من وجهتهم، وسار مسارهم إلى مكّة المكرمة؛ فما اسم ميقات أهل المدينة؟
تنسجم دلالة التعريف اللغوي للميقات بالمعنى الاصطلاحي، حيث إنّ الميقات في لغة العرب ينصرف إلى الزّمان والمكان، فالميقات الزّماني هو الوقت المحدّد لفعل أمرٍ ما، ومثاله: ميقات الصلاة؛ أي وقتها، وميقات الشّهر: القمرُ في أوّله، ومنه قول الله سبحانه: (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ)،[2] والميقات المكاني هو الموضع الذي جُعل لشيءٍ يُفعل عنده، فمواقيتُ الحجّ هي الأماكن المحدّدة شرعاً ليبدأ الحاجّ فيها مناسكه، وهي مواضع إحرام الحاجّ؛ فيُقال مثلاً: هذا ميقاتُ أهل الشام، للمكان الذي يُحرِمون منه،[3] وقد أجمل البهتوي هذه الدلالات الشرعيّة في مصنّفه كشاف القناع بقوله: (المواقيت شرعاً: هي مواضع وأزمنة معيّنة لعِبادةٍ مخصوصةٍ).[4]
ميقات أهل المدينة المنورة هو ذو الحليفة، ويعدّ أبعد المواقيت المكانية عن بيت الله الحرام، حيث يبعد عن مكّة المكرمة عشرة مراحلٍ، وعن المدينة المنورة ستّة أميالٍ، ويُعرف في هذا الزمان عند النّاس باسم آبار علي،[4] ويقع الميقات في وادٍ يسمّى وادي العقيق، وهو مكانٌ مباركٌ، وله مكانةٌ وفضلٌ، فقد أوحى الله -تعالى- لنبيّه -صلّى الله عليه وسلّم- أنّه وادٍ مبارك، حيث قال عليه السلام: (أتاني الليلةَ آتٍ من ربي، وهو بالعقيقِ، أن صلِّ في هذا الوادي المباركِ، وقل: عمرةٌ وحجَّةٌ)،[5] وجاء في روايةٍ أخرى: (إنكَ ببطحاءَ مباركةٍ)،[6][7] وقد جاء عن ابن حجر -رحمه الله- أنّ هذا الحديث يُدخلُ وادي العقيق بالفضل كالمدينة المنورة، في المكانة وأجر الصلاة.[8]
وفي منطقة الإحرام مسجد ذي الحليفة، ويسمّى باسم عليّ، نسبةً إلى السلطان دارفور علي بن دينار، الذي قام بحفر آبار قبل أكثر من قرنٍ عندما زار الميقات ورأى الحاجة لحفر الآبار، ويسمّى أيضاً مسجد المعرس، ومسجد الشجرة،[9] وسبب تسميته بمسجد الشجرة أنّ النبيّ -صلّى الله عليه وسلّم- كان ينزل تحت سمرة بذي الحليفة، فعن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: (أنّ رسولَ اللهِ -صلّى الله عليه وسلّم- كان يَخْرُجُ مِن طريقِ الشجرةِ، ويَدْخُلُ مِن طريقِ المُعَرَّسِ، وأن رسولَ اللهِ -صلّى الله عليه وسلّم- كان إذا خَرَجَ إلى مكةَ يُصلِّي في مسجدِ الشجرةِ، وإذا رَجَعَ صلى بذي الحُلَيْفَةِ، ببَطْنِ الوادي، وباتَ حتى يُصْبِحَ).[10][11]
الميقات الثاني بعد ذي الحليفة هو الجحفة، وهو ميقات أهل بلاد الشام، والثالث قرن المنازل، وهو ميقات أهل نجد، ويسمّى بالسّيل الكبير، ويبعد عن مكة المكرمة بضعاً وسبعين كليو متراً، ومن هذا الميقات يُحرم أهل نجد والحجّاج القادمون من الشّرق، مثل: العراق، وإيران، ودول الخليج العربي، أمّا الميقات الرّابع فاسمه يلملم، وهو ميقات أهل اليمن، ويسمّى أيضاً لملم، ويقع ضمن الأودية الجارية بين ثنايا جبال السّداة، وتقدّر المسافة الفاصلة له من وسط الوادي في منطة السعدية عن الحرم المكي باثنين وتسعين كليو متراً، ويحرم منه الحجّاج القادمون عبر اليمن الساحلي، وسواحل السعودية وأندونيسيا وماليزيا والصين والهند، وغيرهم من حجّاج جنوب آسيا، أمّا ميقات ذات عرق؛ فهو ميقات أهل العراق، ويسمى الضريبة، وهو شِعب بين هضابٍ، ويعدّ من أراضي الحجاز، والمسافة بين ميقات ذات عرق ومكة تبلغ مئةً كيلو متراً، وهو الآن ميقات مهجور؛ فلا يُحرم منه أحد؛ لأنّ الطرق السالكة لا تمرّ عليه، وإنّما طريقها المعبّدة على الطائف وقرن المنازل.[12]
وقد حدّد النبي -صلّى الله عليه وسلّم- هذه المواقيت لأهلها، ولمن أتى مكّة حاجّاً أو معتمراً من طريقها؛ فعن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: (إن النبيَّ -صلّى الله عليه وسلّم- وَقَّتَ لأهلِ المدينةِ ذا الحُلَيْفَةِ، ولأهلِ الشأمِ الجُحْفَةَ، ولأهلِ نَجْدٍ قَرْنَ المنازلِ، ولأهلِ اليمنِ يَلَمْلَمَ، هُنَّ لهُنَّ، ولِمَن أتى عليهنَّ مِن غيرِهن، ممن أرادَ الحجَّ والعمرةَ، ومَن كان دون ذلك فمَن حيث أَنْشَأَ، حتى أهلُ مكةَ مِن مكةَ)،[13] وأهل مكة يُحرمون للعمرة من أقرب مكانٍ في الحلّ، وهي منطقة التنعيم، وفيها مسجد معروف، واسمه مسجد عائشة،[14] وهذا خلافٌ لإحرامهم للحجّ؛ فإنّهم يُحرمون من مكانهم، دون حاجةٍ للخروج إلى حدّ الحلّ كما في العمرة، مثل: منطقة التنعيم، أو عرفات، أو الجعرانة، ويرجع ذلك إلى أنّ النّسك يشترط أن يجتمع فيها حِلٌّ وحرم، وبالحجّ يتحقّق ذلك، خلافاً للعمرة، إذ إنّ كلّ أعمالها في منطقة الحرم؛ فأصبح الخروج من الحرم إلى الحلّ فيها شرطاً لجواز النّسك، وصحة العمرة، ولو كانت تصحّ بإحرامٍ من داخل حدود الحرم لما أمر رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- عائشة بالخروج للإحرام من منطقة التنعم، لضرورة أن تجمع بين حلٍّ وحرمٍ في عمرتها.[15]