ما الحكمة من بقاء باب التوبة مفتوحاً أمام العاصي
التوبة
لقد تفضّل الله على عباده المذنبين بفتح باب التوبة لهم، ورزقهم الرجوع والإنابة إليه، ووعدهم بمغفرة ذنوبهم، فقال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّـهِ تَوْبَةً نَّصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَن يُكَفِّرَ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ)،[1] فلا ييأس المذنب من رحمة الله، فالإنسان مخلوقٌ ضعيفٌ، وينجرّ في كثيرٍ من الأحيان لنفسه وغفلته، التي تُوقعه في الكثير من المعاصي، والمحظورات، والأخطاء، وذلك شأن كلّ إنسانٍ، فمهما كان العبد صالحاً تقيّاً فلا بدّ له من الوقوع في هذه المعاصي؛ حيث لا معصومٌ سوى محمدٍ صلّى الله عليه وسلّم، وتتجلّى رحمة الله عزّ وجل، التي وسعت كلّ شيءٍ بقبوله توبة العاصي بعد وقوعه في المعصية، ويُشترط في صحّة التوبة إن كان الذنب متعلّقاً فيما بين العبد وبين الله من الحقوق: أن يتوقّف عن المعصية، وأن يندم عليها، ويعزم على عدم العودة إليها، فإن فقدت التوبة أحد هذه الشروط لم تصحّ، أمّا إن تعلّق الذنب فيما بين العبد والعباد الآخرين من الحقوق، فيجب عليه أن يبرأ نفسه من حقوقهم، وإن تاب من بعض هذه الحقوق وبقي عليه بعضها، مع توفّر الشروط السابقة لتوبة العبد من حقّ الله، فقد صحّت توبته، ويبقى عليه ما بقي من تلك الحقوق، وقد أمر الله عباده بالتوبة في حياتهم، واستمرارهم عليها حتى مماتهم، فالتوبة هي الطريق المُوصلة بصاحبها إلى الطاعات والأعمال الصالحة، وهي من أسرع الطرق للوصول إلى الله عزّ وجلّ، فالتوبة التي يريدها الله هي التوبة التي يتضمنها العزم على عدم الوقوع في المعاصي والذنوب، ويصاحبها الإخلاص لله تعالى، وهي التي تؤثّر في حياة المسلم، فيشعر أنّه انتقل إلى حياةٍ يملؤها الإيمان.[2]
أهمية التوبة
من النعم التي أنعم الله بها على عباده؛ أنّه يُضاعف لهم الحسنات، ولا يُضاعف عليهم السيئات، فقال في كتابه العزيز: (مَن جاءَ بِالحَسَنَةِ فَلَهُ عَشرُ أَمثالِها وَمَن جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجزى إِلّا مِثلَها وَهُم لا يُظلَمونَ)،[3] وقد شرع الله لعباده الكثير من المجالات التي يكسب العبد عن طريقها الحسنات، ومن هذه الطرق التوبة؛ فإنّ العبد فضلاً على ما يحصل عليه بالتوبة من مغفرة الذنوب، فإنّه يحصل على الحسنات الكثيرة؛ لأنّ التوبة تؤدي إلى زيادة الحسنات، ونقصان السيئات، وهي من أعظم العبادات وأحبّها عند الله تعالى، ومن كثرت توبته ظهر نجاحه وفلاحه، كما أنّ الله يفرح فرحاً كبيراً بتوبة عباده، حيث قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: (للهُ أشدُّ فرحاً بتوبةِ عبدِه من أحدِكم إذا استيقظ على بعيرِه، قد أضله بأرضِ فلاةٍ)،[4] والتوبة عبادةٌ يقوم بها المسلم بقلبه وجوارحه، فإنّ اليوم والساعة التي يفتح الله بها على عباده بالتوبة لهي من خير الأيام والساعات؛ لأنّ العبد بذلك يكون قد سلك طريق سعادته في الدنيا ثمّ في الآخرة.[5]
باب التوبة لا يُغلق
أمر الله -عزّ وجلّ- عباده بالتوبة، وهو مع ذلك غنيٌّ عنهم، ولا ينتفع بما يصدر منهم من الطاعات، ولا يضرّه ما يصدر عنهم من المعاصي، وإنّما جعل التوبة من أجلهم؛ لكثرة ما يذنبون، ويخطئون، ويقعون في المعاصي، فإنّ الخطأ يصدر منهم بالليل والنهار، وإنّ الذنوب هي سبب غضب الله، وظهور الفساد في البرّ والبحر، فقد قال الله تعالى: (ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ)،[6] كما أنّ ذنوب البشر قد تمنع عنهم المطر، وبذلك تبقى البهائم تلعنهم؛ بسبب منعهم المطر، فالتوبة تبدّل السيئات إلى حسنات، وهي باب تطهير القلوب، حيث قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: (إنَّ المؤمنَ إذا أذنَبَ ذنبًا كانت نُكتةٌ سَوداءُ في قلبِهِ، فإن تابَ ونزعَ واستغفرَ صُقِلَ منها)،[7] وهي بابٌ ليعيش المسلم في ظلالها حياةً سعيدةً مطمئنةً، تزول بها الكرب، ويتحقّق بها الغنى، والغيث، والولد، والزرع، وهي من الأسباب التي تُوصل بصاحبها إلى الجنة، ولقد فتح الله باب التوبة لعباده، فلا يغلق هذا الباب على العبد إلّا بموته، ولا يغلق على العباد إلّا بطلوع الشمس من مغربها، وإنّ الله تعالى يقبل من العبد توبته ما لم يغرغر.[8]
مفاتيح التوبة
إن للتوبة مفاتيح وطرق، تُعين العبد على الاستمرار في التوبة كلّما وقعت منه المعصية، وفيما يأتي بيانٌ لبعض هذه الطرق:[9]
- الإخلاص لله تعالى: فإن كان العبد مخلصاً صادقاً لله في توبته، فإنّ الله ييسّرها له، ويُبعد عنه كل ما يُمكن أن يُعيقه في طريقه إليها، فقد قال الله واصفاً حال يوسف: (كَذلِكَ لِنَصرِفَ عَنهُ السّوءَ وَالفَحشاءَ إِنَّهُ مِن عِبادِنَا المُخلَصينَ).[10]
- محبة العبد لله تعالى: فإذا كان القلب فارغاً من محبة الله، امتلأ بغير ذلك من الشرور، فإنّ طغت عليه محبة الله بالأعمال الصالحة، كان سهلاً عليه أن يقوم بفعل الطاعات.
- مجاهدة النفس: فإنّ نفْع ذلك عظيم على الإنسان، ومهما كابد الإنسان نفسه، وأجبرها على فعل الطاعات، كان ذلك صعباً على النفس في بدايتها، ثمّ يصبح محبّباً لها، سهلاً يسيراً عليها، ويبقى الإنسان في مجاهدةٍ مع نفسه حتى الممات.
- قصر الأمل وتذكّر الآخرة: فمتى كان الإنسان عالماً بأنّ الدنيا قصيرة، كثرت منه الأعمال الصالحة، وتاب إلى الله بعد كلّ ذنبٍ.
- طلب العلم: فهو الذي يشغل العبد عن الوقوع في الآفات، ومن العلم أن يعلم الإنسان عن التوبة، وما يتعلّق فيها، فيستمرّ عليها.
- الاشتغال بكلّ ما هو نافع والبعد عن الوحدة والفراغ: فالفراغ هو السبب الرئيسي لكلّ فساد، والنفس إن لم يشغلها الإنسان بطاعة الله شغلته هي بالمعصية.
المراجع
- ↑ سورة التحريم، آية: 8.
- ↑ طارق امعيتيق (16-5-2009)، "التوبة النصوح"، www.alukah.net، اطّلع عليه بتاريخ 29-10-2018. بتصرّف.
- ↑ سورة الأنعام، آية: 160.
- ↑ رواه مسلم، في صحيح مسلم، عن أنس بن مالك، الصفحة أو الرقم: 2747، صحيح.
- ↑ عبد العزيز الغامدي (25-3-2017)، "أهمية التوبة (خطبة)"، www.alukah.net، اطّلع عليه بتاريخ 30-10-2018. بتصرّف.
- ↑ سورة الروم، آية: 41.
- ↑ رواه الألباني، في صحيح الترغيب، عن أبي هريرة، الصفحة أو الرقم: 3141، حسن.
- ↑ عبد العزيز الغامدي (13-5-2016)، "التوبة: الباب الذي لا يغلق (خطبة)"، www.alukah.net، اطّلع عليه بتاريخ 30-10-2018. بتصرّف.
- ↑ جمّاز الجمّاز، "ثمانية عشر مفتاحاً للتوبة"، www.saaid.net، اطّلع عليه بتاريخ 30-10-2018. بتصرّف.
- ↑ سورة يوسف، آية: 24.